المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الجمعة، 10 أغسطس 2018

Abeer K Yahia

طلب مني العديد من الأفاضل أن أقدّم نبذة عن النظرية الذرائعية, أوردها هنا من مقابلة أجرتها معي مجلة كلمات ليست بالكلمات ...

- دكتورة عبير حبّذا لو قدمتِ لنا لمحة عن النظرية الذرائعية.

بكل سرور سوف أقدّم لمحة كما جاء في كتاب(الذرائعية في التطبيق) للدكتور عبد الرزاق عوده الغالبي والذي كان لي فيه القسم العملي.

كانت الذرائعية الحل الأمثل في الساحة النقدية الفارغة من النقد العلمي، لكونها رؤية نقدية تطبيقية  مستندة على أطر ومداخل علمية لكل شيء يذكر من خلالها، ولا تتيح خرمًا للإنشاء الفارغ و الكفيف، وغير المستند على قواعد نقدية رصينة، فهي مثقلة بنظريات نفسية وفلسفية تساعد المتلقي والناقد بالدخول إلى أي نص بشكل ذرائعي علمي، و باعتمادية إدراكية واعية بالتحليل العميق لعناصر العمل الأدبي المتقن, بشكل دقيق ومدروس، يساعد الناقد على الغوص في مكوّنات النص باحترام وحرفية عميقة، ولا تقوم الذرائعية بتخريب قشرة العمل الأدبي الخارجية الجمالية, كما تفعل بقية النظريات النقدية، بل تهتمّ بالشكل والمضمون بشكل متوازٍ و احترام واتزان نقدي متباين، ولا تعمل كالنظريات النقدية المادية، التي لا تنظر إلى أي نص بتكامل، حتى وإن كان في كتاب مقدس ....

-  مامعنى كلمة الذرائعية؟ 
الذرائعية (البراغماتية): جاءت من كلمة (براغما) اليونانية والتي ترجمت خطأ بـ(العملانية), وحين دخلت القواميس الانكليزية اتّفقت ترجمتها مع مفاهيمها المتعدّدة بشكل صحيح بمعنى ( الكذب من أجل المنفعة) في كلّ أنشطة الحياة منها اللغة حين صارت انزياحات الأدب الخيالية والرمزية مرتعًا لهذا المعنى، الذي أكّد إلهيًّا في كتابنا الكريم، سورة الشعراء( الآيات 24 و25و26و27)
وللذرائعية معنى لغوي مميز.

-ما هو هذا المعنى اللغوي للذرائعية؟
أمّا من ناحية علمية وفلسفية فقد تعامل معها الفلاسفة وأخذها العلماء اللغويين،  على اعتبارها دراسة لجميع جوانب المعنى التي تخرج عن الإطار القاموسي, أي التي لا تهتمّ بها النظرية الدلالية (Semantics). ولكن هذا التعريف يستلزم تحديد الإطار الواسع "للمعنى" والذي يعتمد عليه التعريف، كسعة مترامية، حتى يضمّ المحتوى الساخر، والمجازي (أو الاستعاري), والضمني (الإيحائي) للاتصال والكامن في القول المنطوق أو المكتوب أي يشمل جميع الاحتمالات المؤجلة من المعاني التي تكمن في ذهن الأديب والمتلقي والناقد، ومن ثم لا يمكن قصره على المحتوى التقليدي لما يقال فقط، وبعبارة أخرى، فإنّ مجال الذرائعية هو المعنى (بأوسع معانيه) مطروحًا منه الدلالة ( المعنى الذي يحدّده علم الدلالة- السيمانتيكي- أي المعنى القاموسي ), إذًا تقوم الذرائعية على التفرقة بين معنى الجملة ومعنى المنطوق، بحيث يختصّ علم الدلالة بدراسة معاني الجمل, بينما تقوم الذرائعية  بدراسة معاني المنطوقات، وعند هذا التخريج نستخدم "المنطوق" بالمعنى الذي أشار إليه بار – هيلل - باعتباره جملة (أو في بعض الأحيان سلسلة أو مجموعة من الجمل) مرتبطة بسياق معين، وهو على وجه التحديد السياق الذي يتم نطق الجملة أو مجموعة الجمل فيه، ويقبل كثير من اللغويين هذه التفرقة ولو بصورة ضمنية، ولكن هناك مشكلة تكتنف هذا التعريف تتمثّل في أنّه في بعض الحالات النادرة يضمّ معنى الجملة جميع أوجه معنى المنطوق، وذلك عندما يعني المتحدّث بالضبط ما يقوله، لا أكثر ولا أقل، وفي هذه الحالة فإنّ المضمون أو المعنى لابدّ وأن يُعزى إلى (كل من علم الدلالة و الذرائعية معًا), إذًا بالإمكان الجمع بين المعنى السيمانتيكي والمعنى البراغماتي في إطار واحد في التحديد المقصود الثابت بالمعنى.

-ما الفرق بين علم الدلالة والذرائعية؟

  تقوم الذرائعية على التفرقة بين معنى الجملة sentence ومعنى المنطوق utterance، بحيث يختص علم الدلالة (semantics)  بدراسة معاني الجمل, بينما تقوم الذرائعية (pragmatics) بدراسة معاني المنطوقات، وعند هذا التخريج نستخدم "المنطوق" بالمعنى الذي أشار إليه بار – هيلل - باعتباره جملة (أو في بعض الأحيان سلسلة أو مجموعة من الجمل) مرتبطة بسياق معين، وهو على وجه التحديد السياق الذي يتم نطق الجملة أو مجموعة الجمل فيه، ويقبل كثير من اللغويين هذه التفرقة ولو بصورة ضمنية (Connotation)، ولكن هناك مشكلة تكتنف هذا التعريف تتمثل في أنه في بعض الحالات النادرة يضم معنى الجملة جميع أوجه معنى المنطوق، وذلك عندما يعني المتحدث بالضبط ما يقوله، لا أكثر ولا أقل، وفي هذه الحالة فإنّ المضمون أو المعنى لابد وأن يُعزى إلى (كل من علم الدلالة و الذرائعية معا), إذًا بالإمكان الجمع بين المعنى السيمانتيكي والمعنى البراغماتي في إطار واحد في التحديد المقصود الثابت بالمعنى.

تتّخذ الذرائعية من الربط بين المعنى والسياق أساسَا لها, لكون علم الدلالة يختصّ بالمعنى خارج إطار السياق، أو بالمعنى غير المعتمد على السياق, أمّا الذرائعية فتختصّ بالمعنى في السياق، وعلى هذا فإن الذرائعية هي دراسة العلاقات بين اللغة والسياق، وهي العلاقات الأساسية اللازمة لفهم اللغة، وعبارة "فهم اللغة" هنا مستخدمة بالمعنى الذي يقصده العاملون في مجال الذكاء الاصطناعي لجذب الانتباه إلى حقيقة أن فهم منطوق ما ينطوي على قدر أكبر بكثير من مجرد معرفة معاني الكلمات والعلاقات النحوية بينها، إذ أن فهم المنطوق يشتمل على القيام باستنتاجات تربط بين ما يقال بما هو مفترض بصورة متبادلة بين المتحدّثين، أو بما سبق قوله ....

وتعتبر الذرائعية، دراسة لمقدرة مستخدمي لغة ما على ربط الجمل بالسياقات التي تُعتبر هذه الجمل مقبولة أو ملائمة فيها، وبمعنى آخر فإن الرؤية الذرائعية ينبغي من ناحية المبدأ أن تتنبأ بالنسبة لكل جملة سليمة التكوين في لغة ما، وعند قراءة دلالية معينة لها، بمجموعة السياقات التي يمكن أن تكون هذه الجمل ملائمة أو مناسبة فيها ...

التحليل الذرائعي:

متى يبدأ التحليلي الذرائعي ؟

من ناحية تحليلية تبدأ الذرائعية عند انتهاء السيمانتيكية (الدلالات القاموسية), وهي الرابط الحيوي بينه و بين السيمانتيك والسياقات التركيبية للغة والأوضاع الاجتماعية والنفسية والإنسانية والاقتصادية والتجارية، وكلّ وضع حياتي آخر، لذلك تصبح انطلاقتها واسعة، حين تدخل خيمة التواصل بشكل أوضاع لغوية مؤجلة (Prospective meaningful situations) إلى ما لا نهاية، في التحليل المقرون بتلك الأوضاع اللغوية المختلقة من قبل المتلقي أو الناقد والأديب....

- أعطنا مثال على الأوضاع اللغوية المؤجلة من فضلك.

نورد الحدث البسيط التالي وعلاقته بالوضع اللغوي والاحتمالات الذرائعية المؤجلة :

مثال 1- : لو قال احدهم ساخرًا : غرّد البعير على الشجرة.  ، يأخذ السيمانتك هذا القول بشكل صحيح لا غبار عليه، بعد ربطه بالسياق التركيبي فهو :

فاعل --- فعل---- تكملة / لأن السيمانتيك لا يملك الذريعة للرفض مادام التركيب هو الحاكم في صحة الجملة، فهو يهتم بمعنى الجملة (sentence)  فقط، أمّا الذرائعية، فتعمل بشكل مغاير، فتهتم بالمعنى المنطوق (utternace) فتدخله التواصل من خلال الأوضاع اللغوية المؤجلة(prospective meaningful situations) فيكون:

- خطأ: بذريعة الوضع اللغوي الاجتماعي السائد بين الناس، من أن البعير لا يغرّد، وإنما البلبل هو من يغرّد.

- وصحيح: بذريعة الوضع اللغوي الرمزي مؤجّل المعنى بواقع السياق       ( تهكّم)، حين يرمز البعير لمناوئ سياسي يغرد أي يسبّ ويشتم خصمه السياسي، من فوق الشجرة التي ترمز لمكان خارج
-  البلاد.....إلخ من الأوضاع  الأخرى

-كيف نشأت عندكم فكرة النظرية,  وكيف تم طرح مصطلح الذرائعية وكيف تعاملتم معه حتى صار نظرية؟

أعمل مع أستاذي المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي منذ حوالي ثلاث سنوات, طلب مني أن نجمع حوالي 10 نقاد من بلدان عربية مختلفة, وفعلًا جمعت هذا العدد من النقاد, وخضعوا لدورة مكثفة قي محاولة جادة لإخراجهم من النقد الإنشائي, لكنهم للأسف لم يستمروا, وكان هذا مؤشر يؤكد أن ساحة النقد الأدبي فارغة تمامًا من النقد الموضوعي, وأن ما هو سائد فقط نقد إنشائي ويسمونه تسمية غريبة أيضًا ( نقد انطباعي) كان الأستاذ يطلب مني أن أدخل ميدان النقد وأنا أتهيب من هذا الميدان, لم أكن مقتنعة بما يسمى النقد الانطباعي لكن الأستاذ تدرّج معي, لفت نظري مرة دراسة له لأربع دواوين لشاعر واحد كانت دراسة مختلفة تمامًا عن كل ما عهدته من الدراسات, وكنت وقتها أكتب بالطريقة المفصلية متناولة النص بالتحليل انطلاقًا من مفاصله عبر بنائيه الفني والجمالي, الدراسة التي قدمها الأستاذ كانت دراسة مختلفة, فيها تكميم تفكيكي يعتمد على حساب الدلالات الحسية, يومها أبديت إعجابي بالدراسة كثيرًا, فتحدّاني أن أكتب بها, وفعلًا بدأت أكتب النقد على نفس الآلية ونجحت بالتحدي,  كان أستاذ رزاق يغذّيني بها تطبيقيًّا, وكنت ألاحظ أنه شيئًا فشيئًا كان يضيف مصطلحات مكان أخرى, فأحسست أنني أمام إنسان غير عادي, وعرفت أن عنده شيء جديد في عالم النقد, حرصت أن أتفرّغ لاستيعابه, سيّما أن جميع من عوّلنا عليهم لم يصمدوا, إلى أن صرت أكتب النقود تحت مسمى الرؤية البراغماتية, حيث كان استاذ رزاق يعتبر الآلية الذرائعية التي كنا ننقد عليها النصوص بداية رؤية, ويصر علي أن أكتب في بداية كل نقد ( دراسة تحليلية برؤية براغماتية) إلى أن قلت في مقابلة تلفزيونية أجرتها قناة النيل الثقافية معي أن هذه الرؤية إنما هي نظرية بكل معاييرها ! عندها اضطر أستاذي إلى العمل عليها نظريًّا, بإخضاعها للبحث العلمي, واعتماد المداخل النفسية( الاستفزازي السلوكي والاستنباطي والعقلاني)  والمداخل الجمالية ( البصري واللساني)والمداخل الأخلاقية ( البؤرة الثابتة والاحتمالات المتحركة والخلفية الأخلاقية ), والمداخل الإحصائية ( التحليل الرقمي الساند والميل البراغماتي). وبقيت فترة أقدّم هكذا دراسات بهذه الآلية التطبيقية, وأنشرها بالمواقع الالكترونية العالمية, وكذلك على صفحات الفيسبوك, وفي قصور الثقافة هنا بمصر, وفي الندوات الثقافية المهمة جدا على المستوى النقدي, انطلاقًا من مؤسسة الكرمة الثقافية التي منحتني عضوية شرفية فيها بعد أكثر من دراسة ذرائعية قدمتها في ندواتها الثقافية, كما قدّمت دراسة في اتحاد أدباء مصر ومنحت عضوية الاتحاد كذلك, وكنا اتفقنا أستاذي وأنا أن نصدرها كتابًا بقسمين تنظيري ألّفه الأستاذ عبد الرزاق عوده الغالبي, وتطبيقي يحوي عدة دراسات لي على النظرية, وكنت نشرت إحدى هذه الدراسات, ما لفت نظر مؤسسة البيت الثقافي في الهند, والتي طلبت الاطلاع على الكتاب الذي كنا بصدد نشره في مصر برعاية مؤسسة الكرمة الثقافية, فطلبت الاطلاع على الكتاب قبل نشره, كما طلبت منّا التريث قليلًا, وبعد اطلاعها على ملف الكتاب تمّ عرضه على 6 لجان أقرّت بالنسبة مئوية عالية أنه منهج نقدي جديد, وتمّ إقراره نظرية نقدية تضاف إلى النظريات النقدية السبعين, والنظرية النقدية الأولى التي تعنى بالنص الأدبي العربي الرصين تحديدًا, نلنا على أثرها أستاذي وأنا شهادة دكتوراة فخرية بالنقد من جامعة ستراتفورد الأمريكية في الهند,  والحقيقة أننا لا نعوّل على أي شهادات, ويرفض أستاذ رزاق دائمًا لقب دكتور, يقول أنا أستاذ بالمهنة, وأنا أقول أيضًا أنني دكتورة بالمهنة, أما بالأدب فنحن عشاق حرف وقرّاء شغوفين,  وقد تم طبع الكتاب تحت عنوان ( الذرائعية في التطبيق وسمّى الأستاذ محمود حسن رئيس مجلس أمناء مؤسسة الكرمة العام2017 بعام النقد.

- سبق أن قلتم أن النظرية صعبة, كيف استطاع صاحب النظرية تسهيل الرؤية على الناقد؟

وجد أن رؤية البرغماتية قد تكون حلًا منطقيًّا تطبيقيًّا، فقد أسس جسرًا بين التجذير الفلسفي والتعويم التواصلي بين الأحياء(أي ربط التنظير الفلسفي بالتطبيق العلمي العملي)، وقام بتقصير الحبل الواصل بين سلسلة الدلالات والمفاهيم الناتجة عنها، بعد وضعها في سلسلة التواصل الحيوي بشكل حالات وأوضاع لغوية تنطلق من انتهاء مرحلة السيمانتيك، واستهلال البرغماتيك المترع بالمعاني السياقية المنطوقة. لا نستطيع التعمق في هذا الموضوع، إذا لم نتابع اللغة والتواصل فيها عن قرب في جميع المراحل التي تمر فيها، فاللغة في  الذرائعية، ماء يجري في نهر بضفتين من المنبع حتى المصب، فإذا اضمحلت أحد ضفافه انهار هذا النهر و جفّ ماؤه، فتجري اللغة بثلاث مراحل في حيز السلوك الإنساني اليومي, وتمرّ الحياة  فيه بالمراحل التواصلية التالية :

1-المرحلة التكوينيةFormation stage :
-2المرحلة التفسيرية :Interpretation stage
3-المرحلة التواصلية : Communicative  stage

ولهذه المراحل شرح مستفيض في الكتاب

التمركز الذرائعي :

-من يرى خلال إطلاعي على النظرية الذرائعية لاحظت أنكم إتجهتم إلى القرآن الكريم لتصحيح الرؤية الخاطئة عن الذرائعية إذ أن البعض أصبح يرى فيها ذريعة لتبرير ما يفعله من خطأ... دكتورة عبير حبذا لو وضحتِ هذه النقطة للقارئ  .
إن الذرائعية كمصطلح يكاد يكون نهجًا حياتيًّا لغالبية البشر,وقد بدأ مصطلحًا لغويًّا بمعنى الذريعة، وحين تناوله الفلاسفة صار هذا المصطلح ذريعة لمن يعمل بساحات الخطأ ويحتاج ذريعة لشرعنة و تصحيح مسار عمله المنحرف، وانتشر هذا المصطلح على واجهات الأفكار والأعمال بهذا الاتجاه لصيد المنفعة من خلال الخطأ المبرّر بذريعة شخصية، فدخل هذا المعنى في السياسة والتجارة والصناعة وجميع مفاصل الفلسفة والحياة العملية الأخرى، وعُرّف تعاريف كثيرة من قبل فلاسفة وعلماء، لكنّهم لم يتمكّنوا من إخراجه من مستنقع الخطأ المبرّر بالمنفعة.....

حتى خرّجه الأستاذ عبد الرزاق عوده عن هذا المعنى البغيض عن طريق الأدب العربي حين مركز  رؤيته الذرائعية على القرآن الكريم سيد النصوص، لإخراج الأدب العربي بطبيعته الانزياحية نحو الخيال والرمز من مستنقع الخطأ، و أبعاده عن المعنى الذرائعي السلبي باتجاه المعنى الإيجابي، وأقصد بذلك الأدب العربي تحديدًا, و في الرؤية التي سمّيت باسمه(الرؤية الذرائعية) بعدمية واقعية الأدب، والبرهان في ذلك بالدليل القاطع، قول الله تعالى في كتابه العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(227).... صدق الله العظيم ...سورة الشعراء....

وحسب تفسير تلك الآيات البينات يصبح الشعراء بالتشخيص والتعميم (الأدباء) يهيمون في الخيال والرمز الأدبي هم وأتباعهم, وهذا الهيام خوض في اللاواقع بمفترض الكذب والغواية من أجل المنفعة في أعمالهم الأدبية من تشخيص وخيال ورمز, بقصد الأدب والهيام في عمق جنباته الخيالية الواسعة وذلك الهيام عزاه الله (جلّ شأنه)، باتجاه الكذب والسلب والشيطان، و خصّهم الله بالقول فقط دون الفعل كصفة ذميمة أخرى، وهي الذرائعية بعينها في التعدّي في المعنى نحو الخيال والرمز والكذب, فهم قد يكذبون في خيالهم لأن الخيال يبعد عن الواقع كثيرًا، لكنّهم

لم يقصدوا هذا القول من أجل المنفعة لو ينضوي عملهم الأدبي تحت الاستثناء الإلهي في الآية (227 - إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) وهذا المعنى يقودنا إلى أن الذرائعية تنطبق على الأدب بالقول البعيد عن الواقع لكنه غير المضر في جوانب الحياة، لذلك أخذت الرؤية الذرائعية هذا الجانب كتمركز لها, وجعلت من الأدب رساليًّا وعرّابًا للمجتمع بالإسناد الرسالي للأدب وليس الإسفاف في القول والفعل الذي نهى الخالق عنه في الآيات البينات(224و225و226)

ميكانيكية الرؤية الذرائعية التطبيقية ومداخلها النقدية و العلمية:

- ماهي مكانيكية الرؤية الذرائعية التطبيقية ؟

إنّ جميع الفلاسفة والمفكرين, أصحاب النظريات المادية النقدية, انطلقوا من استراتيجيات التفكيك والتحليل والتشريح والتفسير النقدي من منطلق  لغوي مدمج ، لا يفصل بين الأدب واللغة, بل منهم من فصل بين الشكل والمضمون، ولم يقر أحد منهم ذلك الفصل، أو عدميّة اتجاه  صيرورة الأدب نحو العلمية البحتة, بسبب احتلال الخيال أعماق الأدب الداخلية, وتسيّد الجماليات فيه, وتلك الحالة زادت من عدميّة اتجاه الأدب نحو العلمية والإخبار التقريري، فلا يُعدّ أدبٌ ما يخلو من الانزياح نحو الخيال, أو اختفاء حالة الترميز، وبذلك الفرض تحرّكت المدرسة الواقعية نحو الأدب المعمّق بالخيال والترميز(fiction) , وتركت المباشرة التقريرية للأدب الصحفي الإخباري(nonfiction)....

وحسب النظريات النقدية عند الحداثة وعند ما بعد الحداثة و التحليلات المادية والرؤى المتعددة، لم تكن من السهولة، أن يتمكّنها المتلقّي العربي  تطبيقيًّا، لذلك كان النقد العلمي، طبقًا لتلك النظريات شيئًا بعيدًا عن متناول اهتمامه، فجاءت  الرؤية النقدية الذرائعية حلًا تطبيقيًّا ميكانيكيًّا آليًّا جاهزًا، يتفوّق  بذريعة الربط  بين خيوط تلك التحليلات الدقيقة المتمثّلة بالدلالات الحسية وقرائنها (الدال والمدلول  والمفهوم  و العلامات) بمنظار ميكانيكي تطبيقي بحتي، كإطار للممارسة النقدية عن طريق بوابات ومداخل علمية تحدّد إمكانية الناقد وسلوكه النقدي بالمعرفة النقدية وليس بالانشاء التائه، ضمن تصرّف علمي دقيق لا يقبل الشك، حين تعطيه حرية الحركة العلمية والتطبيقية والدخول من خلال تلك المداخل والبوابات النفسية والجمالية والأخلاقية، وهذا ما يقودنا نحو هدف سامٍ يُحسب لتلك الرؤية الإنسانية.....

وما دامت الاحتمالات المؤجلة أو المخبوءة  في النص (Prospective Possibilities)   تلعب دورًا ذرائعيًّا، فهي تُعدّ قوة جبارة بعيدة المدى، وسلوك استفزازي نفسي يتلبّس الأديب والناقد والمتلقي  والمحلّل في استنباط  أو تقمّص المعاني والدلالات المخبوءة بين سطور النص, ولم يحسب لها الأديب حسابًا، بل احتلّت مضمون النصّ بشكل عفوي مؤجّل بالتحليل, وغير محسوب من قبل صانع النص, وتلك هي حصّة النقد الرصين المسوّر بالتحليل العلمي الدقيق، وليس التفسير الوعظي للمعاني والمفردات والمفاهيم المكشوفة في النص، وأمّا ما يحوي النص من صيد وفير، يغوص نحوه القارئ أو المحلّل ليكشف  كلّ ما هو مستور من جواهر في أعمق أعماق النص الأدبي بتحدّ وجدّية وحرفنة نقدية، وعقلانية علمية تجعل متتبع الأثر أو (الناقد) يقوم بدوره بإغناء النص نفسه خارجيًّا باستخدام بوابات العقلانية للاتجاه نحو مداخل التناص الواسعة، لذلك يحتاج الناقد أو المتلقّي أو القارئ مداخل علمية يتنقّل من خلالها في أرجاء النص المترامية، لحصر كلّ ما تقع عليه يده من صيد ثمين في سلال علمية أمينة، لذلك فتحت الرؤية الذرائعية ذراعيها لتستقبل المحلّل من جميع مداخلها وبواباتها العلمية.

- وماهي هذه المداخل دكتورة ؟

المداخل النفسية، المداخل الجمالية، المداخل الأخلاقية، المداخل الإحصائية.

- دكتورة عبير..هناك ثلاث مداخل نفسية أرجو أن تقدمي للقارئ شرحا مختصرا عنها.

المداخل النفسية

1-المدخل الاستفزازي – السلوكي  ( Behavioral Trend):

ومن منطلق أن الأدب سلوك إنساني راق، يسلك الناقد هذا المسلك النفسي بعناصره، المحفز(stimulus) والاستجابة(response) أو الفعل(action) وردّ الفعل(reaction) أو السؤال والجواب، لكي يتوصّل إلى أعماق الأديب، من خلال نصّه, وهي حالة من التداعي والاندماج بين شخصية الأديب والمتلقّي أو المحلّل، حينها تكون التساؤلات والإشكالات الإنسانية والاجتماعية والفلسفية و النفسية والرومانسية والمعاني الأخرى (أي تساؤل من أي نوع)وحتى الاقتصادية المتخلّلة في النص، حصّة لذلك المدخل السلوكي، فيبحث الناقد عنها بشكل دقيق ومريح، ويضع تلك التساؤلات بتقابل حسي بدوالّ واضحة يقوم بالبحث عن مفاهيمها التحليلية أو السيميائية أو البنيوية، ويحلّلها بطريقة الدلالة والمدلول والقرين والمفهوم....

2-أمّا المدخل الاستنباطي ( Inference and Empathy Theory ):

خصّص هذا المدخل لتقمّص الناقد شخصية الأديب للبحث عن المفاهيم بالتوازي في الحالات الانفعالية التي تصيب النصّاص, وتجد تباينها عند الناقد, تعزى نحو الدلالات العقلانية من حكمة وموعظة فلسفية أو اجتماعية أو إنسانية، ما دام الأدب حالة وجدانية تصيب الأديب، فيها يختلف عن الإنسان العادي  عندها يقوم بتقمّص شخصية، غير شخصيته الاعتيادية ويسجّل إرهاصاته الداخلية بأسلوب عميق, وذلك يذكّرنا بمصطلح قديم يطلق على الشاعر حين يقال(شيطان الشعر) وهل للشعر والأدب شيطان....؟

3- والمدخل العقلاني(Mentalism Theory): 

الأدب إناء العقلانية والخلق والتواضع والمثل العليا، وهو اسم ماسي لمسمّى ذهبي، يمتاز هذا الحقل الجميل بالتوازي مع خبرات الآخرين من أبناء الحقل لمواكبة الرقي والارتقاء والإغناء، فخصّصت للدلالات الفكرية المتباينة مع الأفكار
الخارجية والتي تحتلّ أيديولوجيات فكريّة لفلاسفة أو كتّاب كلاسيك، لهم تجارب إنسانية وأدبية متوارثة، وتكون بوابة التوازي أو التناص (Texuality) مسلكًا واسعًا لتحديد الدلالات والبحث عن قرائنها ومفاهيمها الخارجية المتوازية, لإغناء النص الخاضع للنقد أو القراءة النقدية...

- كذلك فإن هناك مدخلين من المداخل الجمالية، فما هما هذان المدخلان ؟

المداخل الجمالية

4-المدخل اللساني (Linguistic Trend):

وما دام الأدب بناء فني وجمالي مصنوع بدقة وحنكة أدبية مثقلة بالجمال البلاغي من بديع وبيان وعمق خيالي و رمزي مثقل بالتعابير اللغوية ومشتقاتها الجمالية، فقد خصّص ذلك المدخل للدوال والمدلولات والمفاهيم التركيبية والاملائية، واللغوية البلاغية و توابعها الاشتقاقية وحتى تحليلاتها الفونولوجية، حسب المنظور البنيوي والذرائعي وهو أوسع مدخل من مداخل الرؤية الذرائعية.....

5- المدخل البصري: External Trend :
يفتخر النص العربي بين نصوص اللغات الأخرى بأرديته الفاخرة الجمالية، من تجنيس و بلاغة وبيان وبديع وقافية ووزن وأدوات تنقيط جميلة وحروف بأشكال مبهرة مرئية، فقد كان شكل النص العربي في سباق دائم مع مضمونه، ويتفوّق الشكل في أحيان كثيرة على المضمون، فهو يتعلّق بكلّ الدلالات والعلامات الظاهرة للعيان والمرئيّة البصرية، التي تخرج عن نطاق المفاهيم والمداخل المذكورة آنفًا، لذلك خصّص هذا المدخل لدراسة عناصر الشكل بشكل منفرد...

- تستطرد في شرح المداخل الأخلاقية.

المداخل الأخلاقية

6-  البؤرة الثابتة(Static Core)

وهي المدخل الاستهلالي في الاحتمالات المتحرّكة الذي يحصر الناقد جميع أعمدة دراسته بينه وبين الخلفية الأخلاقية, ويثبّت فيها الناقد المفاهيم المركزية للنص، المتمثلة بأيديولوجية الكاتب الفكرية وتكنيكاته الأدبية واستراتيجيته النصية، التي يستخدم فيها جميع أدواته الأدبية والفكرية والتي لا يمكن مسها نقديًّا، سوى تقويتها بالإضافات والإضاءات والشروحات والاحتمالات الديناميكية في المحطة القادمة...

7-الاحتمالات الديناميكية المتحرّكة(Dynamic Possibilities)

وبتلك المحطة تتمّ تصفية جميع الدلالات (الدال والمدلول والمفهوم والعلامات) والقيم بالغوص في مكنوّنات النص المخبوءة عمقًا في المحتوى الداخلي للنصّ وظاهره، ثمّ تحليلها بذرائع مناسبة وأسباب ومسبّبات ونتائج وتحليل جميع المفاهيم المؤجّلة(prospective meanings) والبنيات الفنية والجمالية والبصرية واللسانية والسلوكية تحت مسمياتها، تحت هذا العنوان، أو بشكل منفرد ثمّ الإشارة إليها, و ذلك متروك لترتيب الناقد لرؤيته النقدية....

8-الخلفية الأخلاقية (Moral Background)

الأخلاق الإنسانية هي صفة تكوينيّة ترتبط بتربية الإنسان وبيئته الاجتماعية، كيف إذا كان أديبًا، سيكثّف حتمًا تلك الصفة ويؤطّرها بالالتزام الأدبي والأخلاقي، فيلتزم بالكلمة المؤدّبة التي لا تحمل تطاولًا على الآخرين، فوقع الكلمة على الناس أشدّ من وقع الحسام، لذلك على الأديب أن يحترم القوانين والأعراف والأجناس, ولا يدخل نفسه وقلمه في متاهات تهين الكلمة الطيبة، فإنّها أعظم الصدقات، يتوجّب على الأديب عدم التعرّض للمعتقدات والأديان والأجناس والمذاهب, ويكون بمنأى عن خدش الحياء, والابتعاد عن كلّ فكر يزرع العداء والفرقة بين الناس، على الناقد أنّ يهتمّ بالبحث عن الأدب الرصين, و هو الأدب الرسالي الذي يسند الناس في المجتمع بالنصح والإرشاد, ويساعدهم في حلّ مشاكلهم الحياتية وملاحقة الظلم والخطأ..... والتقصّي عن خلفيّة النص الأخلاقية التي تلتزم بالأخلاق العامة للمنظومة الأخلاقية تحت مبدأ الالتزام الأدبي الأخلاقي (Doctrine of Compensation)  وفيه لا يجوز للأديب الحقيقي التعدّي على الأخلاق واختراق القوانين والأعراف، وعدم التدخّل بالمذاهب والأجناس والطائفية بغرض إثارة الفرقة والفتن بين الناس...

- بقي المداخل الإحصائية لو تكرمتِ .

المداخل الإحصائية

9-التحليل الرقمي الساند(Supporting Digital Analysis)

وهنا لا يكتفي الناقد بتحليلات دلالاته ومدلولاته ومفاهيمه وعلاماته الحسيّة حسب المداخل السابقة, بل يقرنها بهذا المدخل الإحصائي ليعطي الدراسة النقدية ميلًا علميًّا بحتًا, فيسندها :

• بتحليل رياضي رقمي مدروس، وتحويل  جميع تلك العلامات والدلالات الحسية والمدلولات بجميع محطات الدراسة النقدية إلى أرقام حسب تكرار مدلولاتها، و وضعها بمعيار حسابي دقيق  كنقد رقمي ساند، يعرف من خلاله هوية الأديب ودرجة رصانة النص بنسبة وحساب رياضي...

•  ويسندها بميل رقمي (rubric)بحت يحسب فيه درجة أرجحيّة الإبداع لدى الأديب, وهذا الميل يكشف الأمور الأخرى التي قد تفوت الناقد في تحليلاته لمتون النص....

• - يعتمد النقد الذرائعي على عدة استراتجيات وهي استراتجية التحليل و التفسير و الاستقطاع و الاسترجاع و استراتيجية الصقل وإعادة البناء.
أرجو أن تقدمي لنا شرحا مختصرا عن هذه الاستراتيجيات.

استراتيجيات النقد الذرائعي المعتمدة:

 استراتيجية التحليل (Strategy of Analysis) :

وهي فحص أعمدة النص بدقّة متناهية, بتتبّع خارطة بنائه الهندسيّة، والنفاذ إليها بحذر شديد, وتحليل جميع تلك المكوّنات الداخلية والخارجية( الشكل والمضمون ) للنصّ من الأكبر حتى الأصغر من الدوال، دون تخريب بنيته الداخلية والخارجية، حتى بلوغ قاع النص حسب مفاصله, وذلك بعزل تلك المفاصل ومناقشة كل واحد بالتحليل الممل لترميمه وإعادة بنائه من جديد بشكل محدّث، وتلك الإعادة بالبناء ستكون برّاقة وبحلّة جديدة دون إحداث أي شرخ في مكونات النص البنائية....وتلك الاستراتيجية  ستكون مدار بحثنا في الشرح والتحليل.....

 استراتيجية التفسير (Strategy of Interpretation) :

ومن خلال عملية إعادة البناء نستخدم أيضًا استراتيجية التفسير للمفاصل التي لا  تحتاج كثيرًا من التحليل، لكونها بلغت  في موقعها النهائي الغير قابل للتحليل وهو قاع النص، وتتمّ تلك العملية عن طريق استخراج الدوال المتعشّقة في النص، والتي تساهم في بنائه الفني والجمالي مساهمة فعّالة، واستخراج المدلولات والمفاهيم منها، ويتحّتم على الناقد الذكي العمل بتلك الاستراتيجيات معًا...

• استراتيجية الاستقطاعDeduction Strategy

يقتضي الأمر بالتحليل الذرائعي أن تعطى ذريعة لكل فعل يخرج عن إطار التكوين البنائي للنظرية, من توسّع بإضافة أو إغناء أو حذف لزيادة أو حشو، وما دامت النظرية تدار بمداخل علميّة ونفسيّة عديدة، تتوزّع على المعطيات التي يحملها النص، وعند حالة رجحان أو نقص في تلك المعطيات التي يحملها النص، يفضي نحو اقتطاع مدخل يخصّه، وهذا المنحى يتقرّر برصانة النص، فالنصّ المكتملة رصانته لا يخضع لتلك الاستراتيحية بذريعة اكتمال الرصانة،
وعندما يكون العكس، يتوجب تطبيق تلك الاستراتيجية، من جميع الوجوه الفنية والجمالية، و لا يحدث فيه الاستقطاع بشكل فعلي، وهذا يقود إلى القول بأنّ النظرية الذرائعية لا تنسجم مع النصوص الضعيفة.

استراتيجية الاسترجاعRetrieval Strategy

تعمل تلك الاستراتيجية على إغناء النص من جميع الوجوه بالبحث عن النواقص الأدبية والسردية المتخلّلة في النص لإعادتها إليه بتنبيه شفيف للنصّاص بشكل غير مباشر, ليكون على بيّنة من المفقودات في نصه, و عليه إعادتها إليه في القادمات من النصوص, أو بطريقة الاسترجاع بإعادة الكتابة لنفس النصّ وأخذ النواقص بنظر الاعتبار.

استراتيجية الصقل وإعادة البناء( Refinement and Rebuilding Strategy)

وما دامت مفاصل النصّ تقف كأعمدة نقدية علمية وتشترك في آلية تحليل بناء النص، فقد تتعاون فيما بينها في البنائين الفني والجمالي، لذلك يتحتّم على الناقد الذكي تسخيرها وتطويعها، لتكون قنوات علمية في إرساء دعائم النصّ في النقد الأدبي، فينطلق الناقد بتوصيف كامل لأعمدة النص الخاضع للتحليل، واتباع التدرّج
التوليدي والتكويني بصفتيه الهجوم والمعارضة لتوليد الأحداث السردية، من محاور التدرج والتشابك السردي الثلاث (محور التوليد ومحور التكوين ومحور المعارض) للإلمام بعناصر البناء الهندسي للنصّ بشكل تدريجي دقيق.

-دكتورة عبير ..ماهي سمات الرؤية النقدية البراغماتيكية ؟

سمات الرؤية النقدية البراغماتيكية :

1- تمتاز الرؤية النقدية الذرائعية من أنها تبدأ باستلام المعنى المؤجل بشكل أوضاع اجتماعية(prospective meaningful situations) من مرحلة انتهاء السيمانتيك، ثم تقوم بربط تلك المعاني بالدلالات التنظيمية للسياق عن طريق التواصل الحيوي (communication stage)  لإعطاء الحرية الكاملة في التعبير رمزيًّا وخياليًّا...

2- تتّسم الرؤية الذرائعية النقدية، باستقلال النص الأدبي وفصله عن الأديب نهائيًّا بعد نشره, ولا تتعرّض للأديب لا من قريب أو بعيد, فالنصّ بعد نشره يعتبر ملكًا للمتلقّي، وتلك السمة النقدية تمتاز بها معظم النظريات والرؤى النقدية ما بعد الحداثة...

3- تهتم تلك الرؤية الذرائعية بالنصّ الرسالي، أي النصّ الغني بالرسالة الأدبية والإنسانية المفيدة للمجتمع والتي ترتكز على أيديولوجيات فكرية, تنظّم الحياة  في المجتمع, وتعبّد الطرق الثقافية والفكرية للجمع الإنساني, ولا تهتم بكل غامض لا يحمل رسالة إنسانية...

4- لا يخوض الناقد الملتزم لتلك الرؤية بالنصوص الضعيفة التي تعكس انطباعًا سلبيًّا على النصّ و كاتب النصّ....

5-  تهتمّ تلك الرؤية النقدية بالمضمون والشكل والتجنيس بشكل متواز, لأنّ ذلك يعكس أناقة النصّ العربي شكلًا ومضمونًا...

6- لا تصرّ الرؤية الذرائعية على القوانين اللغوية الصارمة التي تتبنّاها  نهج النظرية البنيوية, والتي لا تقبل النقض أو التغير أو التعديل .

7-  تتّفق الرؤية الذرائعية  مع منهج التفكيك الفلسفي, وتلتقي معه في النص الأدبي الذي لم يعد يميل إلى بنية لغوية منسّقة منطقيًّا, بل يخضع لنظم دائمة وتقاليد ثابتة يمكن رصدها, ويمثّل تركيبة لا تنطوي بداخلها على متناقضات وصراعات  وشروخ لا نهاية لها....

8- ثبّتت الرؤية الذرائعية اللغة، باعتبارها علم (linguistic) يهتم  بدراسة الحقائق اللغوية (phonology) ، تنتهي علميّتها عند انتهاء السيمانتيك، الذي ينتهي عند حدّ معنى قاموسيًّا واحدًا، وحرّكت الأدب باعتباره برغماتيك في المعنى، و يحمل الرمزية والخيال بين جنبيه، و ينظّم العلاقة بينه وبين

9- السيمانتيك والنظم التركيبية في السياق و ينضوي البراكماتيك تحت المعاني المؤجلة في السياق اللغوي..

10-تقوم الذرائعية على التفريق بين معنى الجملة sentence ومعنى المنطوق utterance ، بحيث يختصّ علم الدلالة (semantics)  بدراسة معاني الجمل, بينما تقوم الذرائعية (pragmatics) بدراسة معاني المنطوقات...

- كلمة أخيرة دكتورة:

أودّ أن أؤكد على المنظور البراغماتي, هذا المنظور يرسّخ مفاهيم التنوّع في المعاني والمدلولات بشكل ديناميكي اجتماعي (Connotation meaning) بدلالات تضمينيّة، تتنقّل بين الواقع والخيال والرمز، و يأخذ اللغة بشكل فكر وصيغ لغوية كاملة (situations) في نظام اجتماعي متنوّع، للتبادل اللغوي الإنساني اليومي (discourse language)، وكذلك يقرّ المفاهيم غير المرئية والخيالية والرمزية, يضيف لها عمقًا إيحائيًّا، بمعنى أنّ الذرائعية تبدأ بانتهاء المعنى السيمانتيكي وتربط بينها وبين السيمانتيكية بالسياق التنظيمي للغة, وبعدها تتجه نحو الاستخدام الاجتماعي، وهذا يجرّنا نحو مفهوم الأدب, لكون الأدب ينزاح نحو الخيال والعمق السردي و الرمزي، لذلك هناك فرق بين اللغة العادية و لغة الأدب، فاللغة العادية ثابتة، ولغة الأدب متحرّكة وهذا ما يقصد به الديناميكية والاستاتيكية في اللغة، إذًا المنحى البراغماتي(Pragmatic) يأخذ اللغة، كوسيط إنساني معنوي ديناميكي، يحمل بين طياته التعابير العادية والعميقة معًا، فهو لا يحمل حساسيّة من الاثنين، بل بالعكس، فهو يعطي حرية ومساحة واسعة بالتعبير، كممارسات اجتماعية تشمل صيغ الخطاب اليومي والعمق الأدبي، وهنا تتأتّى أهمية التعبير البراغماتي الجمالي المسند من علوم أخرى كعلم البيان وعلم البديع وعلم المعنى وعلم الجمال وعلوم أخرى، وهو الأدب بعينه...

وبذلك تتعامل الذرائعية كنظرية أدبية مع النص الأدبي ككائن حي له روح وجسد وإدراك, ويستحق أن يدرس حيًا وليس ميتًا على طاولة تشريح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق