المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الاثنين، 27 أغسطس 2018

المقال للدكتور عبدالرزاق عودة الغالبي

مقالة عنوانها : (الشعر ورسالة الشاعر الإنساننية  ) / عبد الرزاق عوده الغالبي

الشعر خطاب وجداني مقتضب و رسم موسيقي حسي بالكلمات ، يتبنى قضية مغلفة بشعورية الشاعر وموهبته ومهارته الوجدانية ، في التأثير الحسي المطنب مع انعكاس زمكاني لوضع مرفق بتفسير وافي لكينونة الحدث ، ويعد الشعر شكلاً من أشكال الفن الأدبي فيعتلي نواصيه الجمال و يتصرف فيه بمساحات بصرية ، و أخرى مخبوءة و غير محددة ، وعلى المشهور،  هو معنى مموسق ولفظ مأخوذ من كلمة الشعور ، ينتهك بشراسة ورقة مرهفة أخيلة المتلقي حين يخاطب وجدانه لا كينونته الملموسة بشكل مباشر ، و بلغة مفهومة ومعاني واضحة منتقاة بحرفنة ودقة عالية الجودة و التأثير ، تمكن الشاعر من النفاذ إلى أعماق المتلقي وأحاسيسه بصورة ناعمة تلامس دواخله الشعورية، وتسرق يقظته وتجعله هائماً في أثير الخيال الواسع لكي تحقق ما تصبو إليه من انتهاك سحري مؤثر ،  وهذا شأن الشعر برمته من العهد الجاهلي مرورا بالثورة الرومانسية ، حتى الحداثة وما بعدها وصولاً إلى  يومنا هذا بكل أنواعه وأغراضه.
يقتضي أن يسير الشعر بشكل متوازي مع  الموسيقى والرسم مع اختلاف الأدوات ، فالكلمات حصة الشعر، و الموسيقى تمسكها الأنغام،  والرسم تتسيده الألوان ، ومع ذلك  ، يلتقي هذا الثلاثي الجميل و يتمازج كخليط  متجانس مع الحبكة والمعنى في بوتقة الموهبة و إنسانية الشاعر المحملة بالحس للتعبيرعن قضية حملها له المجتمع وعليه إيصالها بأمانة وإخلاص دون تشويه أو تلاعب ، فالأديب  هو عرابٌ للمجتمع ومطاردٌ للظلم ، لذلك فهو أمين في إيصال صوته دفاعاً عن المظلوم أو تقريعاً لظالم ، مع الإشارة إلى الأخطاء وتصحيح مساراتها  ، الأدب برمته وليس الشعر فقط  كينونة مرعبة للظلمة  ، والكثير من الأدباء ضحوا بأنفسهم مقابل قضاياهم العادلة ، وقد حمل لنا التاريخ  الأدبي أحداثاً مثيرة من هذا القبيل لشعراء قارعوا الظلم والظالمين ،  والكل يتذكر ما حصل للمتنبي مع كافور مصر وقصيدته الرائعة التي دفع حياته ثمناً لها(عيد بأية حال عدت يا عيد.....)....وأبعد  من ذلك ، أن الشعر برمته قضية وجدانية تهتم بمدارك الإحساس والعلاقات القلبية والوجدانية التي  تسور الواقع بأسوار الحقيقة،  وتحلق فوقه بإدراك غير ملموس ، الحس ((والشُّعراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ . ألَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وأَنَّهُمْ يَقولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلّا الذِينَ آَمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وسَيَعْلَمُ الذِين ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبونَ )
نرى ان الله جل شأنه استثنى من الشعراء ، من صدق إحساسه  ولاحق الظلم وقارع الظلمة ، وجعله مجاهداً ومدافعاً عن الحق بلسانه . اذن حتى الخالق جل شانه ، يستثني الشعر من الممنوعات اذا كان يحمل قضية ورسالة انسانية تخدم المجتمع وخلاف ذلك فاصحابه غاوون ،ويقولون ما لا يفعلون......
إن الثورة الرومانسية وشعراءها، وليام ويردسويرث و صومويل تايلر كولرج الذين ألفوا كتاباً في القرن التاسع عشر، اسمه(The Lyrical Ballads اناشيد غنائية)  ووليم بليك و بايرون وجون كيتس، ألقت ظلاً سميكاً على شعرائنا المعاصرين، والتحم الحال الانكليزي بالحال العراقي بعمارة والسياب والملائكة والبياتي، وإطلاق سراح الشعر من بين قضبان القريض إلى فضاء الحرية المرسل، وتسارعت خطواتهم خلف المعنى المقيد بالوزن لتحريره أيضاً من عبودية القافية و الخروج به إلى ساحات التحرر و بشكل كامل حين تبنوا مدرسة حديثة وغريبة كغرابة دجاجة بين ديوك شرسة ، مدرسة الواقعية التي تتبنى الإنسان وقضاياه النفسية وكفاحه الإنساني في الحياة اليومية. أشار الكثير من النقاد نحو العراق وبالذات نحو الشاعرة نازك الملائكة ومنهم نحو لميعة عباس عمارة  وهناك من أشار نحو الخيمة العربية ، وصلاح عبد الصبور .
اتخذ الشعر الحديث في بداياته في الخمسينيات  من القرن المنصرم أنماطاً  وأسماء مختلفة  منها " الشعر المرسل" والنظم المرسل " و"الشعر الجديد" و"شعر التفعيلة"، وأخيراً  أطلق عليه مسمى "الشعر الحر" حين اتخذت قصيدة الشعر الحر عناصر مختلفة :  العاطِفَةُ و الفِكرَةُ، و الخَيالُ، والأُسلوبُ، والنَّظمُ، و الوحدة العضوية، فلم يعد البيت هو الوحدة  المتكاملة في التبليغ، وإنما تفوقت القصيدة بكونها كلاماً متماسكاً وموحداً ، واندمج الشكل بالمضمون وتسخرت التفعيلة والصياغة لخدمة الموضوع حين اقتفى الشاعر أثر المعنى في وحدة القصيدة، أما "التفعيلة " ما هي إلا موسيقى رابطة بين المفردات الداخلية للقصيدة ، قد تظهر مرة وحياناً تختفي تماماً . تمتاز هذه المدرسة الحرة بالواقعية في البناء الشعري وبتعرضها للحالات النفسية والعوامل المتعددة من آمال وطموح كرد خلافي على مدرسة الابتداع والهروب من الواقع الذي تتبناه المدرسة الرومانسية والتي تلهث وراء الطبيعة والعوالم الإنسانية والخيال و المثالية للمعاصرين لهذا النمط الأدبي.
أرسى دعائم المدرسة الواقعية في العراق الشاعرة لميعة عباس عمارة والشاعر بدر شاكر السياب. ومن روادها نازك الملائكة وعبد الباسط الصوفي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وأمل دنقل  ومحمود حسن إسماعيل . والأهم من ذلك كله يكمن خلف إمكانية  الخروج من مدرسة الشعر القريض نحو الحرية والالتزام بالمعنى أكثر من الوزن، لكون الوزن قيدٌ يشغل الشاعر بالبحث عن التوافق الموسيقي أكثر من الترابط الفكروي في وحدة القصيدة بعد أن فشلت الضرورة الشعرية في إسعافه. ومع ذلك اتسعت مدارك تلك المدرسة سريعا وألقت ثقلها في أحضان الأدب العربي ، بملامح معاصرة جديرة بالمتابعة والاحترام منها:
• تتبنى القصيدة الوضوح والبساطة والعفوية مع لغة تقترب نحو اللغة الدارجة في التعامل اليومي لكي تغزو أذهان البسطاء بسهولة ويسر.
•  هنالك نوع سريالي من الشعر الحديث يمتاز بالغموض والإبهام وتناول الأسطورة والرمز و الإبهام بالتحليل بالمقاييس الشعرية المعروفة.
• الملامسة للروافد الرومانسية والإبداعية الناتجة من التدين والموروث العقائدي والتراثي
• محاربة الظلم والأخطاء وكشف الحقائق ونشر الوعي ومحاربة التخلف في كل أشكاله.
• وحدة القصيدة هدف أساسي وهي عبارة عن سيناريو لقضية مدروسة بدقة متناهية مسبقا تخفي وراءها خلفية اخلاقية
• كفاح الانسان ومعاناته النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية اليومية وتجربته هي جوهر مثالي يستحق الملاحقة الادبية
• تناول الرمز الشعري المستل من التراث والتاريخ والشكل الاجتماعي والأعراف
تمرد الشعر في العراق خلال السنوات الأخيرة من القرن المنصرم، وأقصد التخصيص وليس التعميم، فالبعض من شعرائنا ارتدوا السريالية بدلة أنيقة وربطة عنق وأغرقوا القصيدة الحرة بهوس الغموض وألبسوها ثوباً مهلهلاً من الإبهام، و انتزعوا المعنى منها انتزاعاً قسرياً حين غاصوا  في أركان القصيدة الشعرية بشكل كفيف، هدف يسعى إليه  الشاعر بحثاً وزحفاً وتوقاً  نحو الفوضى والهروب المستعجل الخائف من الواقع والحقيقة، حتى أمست  القصيدة إطاراً جافاً، ومجموعة من الألغاز والطلاسم ليس لها حل حين امتص منها المحتوى ونجحت في نقل المتلقي من حيز الخيال المفترض باتجاه صحراء قاحلة من الاحتمالات الجامدة لتركيب المعنى الهادف في تلك القصيدة، بذلك فقد الشعر إمكانيته  الحسية في صيد الانتباه، وفقد الشاعر رسالته الإنسانية وقضيته الفكرية حين سقطت عناصره المهمة في بركة التمرد والجمود و الغموض الآسنة ، فأصبحت القصيدة كفيفة والشاعر بصير ....!
فقدت القصيدة الحرة العراقية حريتها وبصرها وهي في ريعان الصبا و الشباب، وظلت تتلمس أجزاءها المبعثرة بغياب المعنى والإحساس، حين أوصدت أبواب القصيدة على ذوق المتلقي و أصبحت كتلة سجينة عمياء خاوية تتلمس طريقها في ظلام دامس ، مجموعة من الكلمات المتناثرة هنا وهناك ، ميتة لا روح فيها، وبدأ العزوف يطرق أبواب القراء، وانحسر النهم بالقراءة مع اطراد إصدارات ألفية من هذا النوع باتجاه سلال الإهمال ورفوف المكتبات.....!؟ ولا ندري لما يفعل شعراؤنا ذلك ...!؟...وهل هو وميض أسود يلوح بيده لظهور مدرسة جديدة لزرع القباحة والغموض والإسفاف بديلاً للجمالية والسباحة في بحار السهل الممتنع والاحساس المرهف الملائكي و السيابي ...!؟
ويصرخ العراق بأعلى صوته يستنهض أهل القبور من أصحاب كلم وقلم، ليأخذ كل منهم دوره الوطني لمواجهة الأوضاع المنحرفة ، ومع ذلك ثمل الأحياء منهم بخمرة الغموض وسهولة الشاعرية والتصاقهم القرادي بالسريالية اليابسة ، الخالية من الحياة ، حتى نسوا وتناسوا مخاطبة الإنسان العراقي البسيط،  وتوعيته بواقعه المر الخانق، وحرموا القصيدة من أداء واجبها الوطني حين قيدوها و رموها في سلال النقد المتعالي و المدلل والمتشدق بالمصطلحات الجافة الرنانة، والرموز والطلاسم المقفلة في غرف الغموض المظلمة، حتى اشمأز الذوق وشاح بوجهه عنهم نحو قصيدة  الشعر الشعبي ،  واتسعت الهوة بين البسطاء من الناس وشعرائنا المجددين والمعاصرين، حين أخذ العزوف مكانته المرموقة في أذهان المتلقي ودق إسفيناً اسمنتياً بينه وشعرهم الذي يستدعي كل قواميس و معاجم الأرض لفك أسراره وطلاسمه السريالية المقفلة. ....انطلاقا من مبدا مصيبة قوم عند قوم فوائد فقد أخذت القصيدة الشعبية واجب الشعر الحر ، الشاعر والمهمل عن قصد وترفع ، في العراق لملامستها الواقع الإنساني فينا وقربها من إحساسنا المسحوق..... وعتب الوطن ثقيل ولسان حاله يقول جزى الله النوائب ألف خير  فقد علمتني عدوي من صديقي.....لعن الله  التجديد والغموض والسريالية ، هم سرطان ينخر جسد الكلمة الطيبة..........والكلمة الطيبة صدقة.... !؟

============================  عبدالرزاق عودة الغالبي ========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق