المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الأحد، 9 سبتمبر 2018

القيد  ...

                   قصة : مصطفى الحاج حسين .

       من نافذة اختناقها تطلّ على الزّقاق الضّيق ،

بشغفٍ جنوني ، تتلقفُ تلهفه ، قلبها الغضّ يخفقُ

بصخبٍ ، ولعينيهِ المتوسّلتينِ  تطيّر إبتسامة من

دمعٍ . لكنّ وجه ابن عمّها المقيت ، يبرز فجأة أمام

غبطتها ، فتجفلُ وتصفعها حقيقة خطبته لها ، ترمق

خاتمها الذي يشنق أحلامها بإزدراء ، ترتدُّ نحو

انكسارها ، تغيب مخلّفة وراء النّافذة حسرة في

قلب " فتى النّافذة " .

                         *   *   *

        بعد توسّلات مذبوحة ، وإلحاح مستميت،

تشفق الأم على كآبة ابنتها ، فتفرج عن جناحيها

لبعض الوقت .

       يبرق قلبها من الفرحة ، يذوب جليد الرّوح ،

وتسري في الأوردة مراكب الأماني البيض ...

سيلتقيان .. وتتشابك الأصابع بارتعاشها ، تحتفي

بخطواتهما الأرض ، تحتضن الدّروب فراشات

بوحهما ، والغيوم البيضاء تطال جنون القبلات .

            أشهر مضت على إعلان حتفها ، قابعة خلف

كثبان أحلامها مع خاتمها اللعين ، تراقب باختناق

حاد تحرّكات " فتى النّافذة" القلقة .

- أتريدين شيئاً من أمّ زينب ؟ .

تردّ أمّها المنهمكة بترتيب قبرها الأثير :

- بلّغيها السّلام .. لكن إياك والتأخر .

                         *   *   *

         تندفع نحو الباب ، كسحابةِ شوقٍ ، ترقصُ

خلجاتها على إيقاعِ الانعتاق ، تسبقها عصافير التّوق

متقافزة فوق أحجار الطريق المرصوفة .

              ومن بعيدٍ تلمحُ فتاها يتتبّعها ، فيشتعلُ

الصّهيلُ في نبضها ، يرفرفُ دم اشراقها ، جناحاها

يغرّدان ، وهي تقاومُ رغبةً في الالتفات :

- (( مجنونة ماذا لو افتضح أمركِ ؟؟ .. ستذبحينَ

كعمّتكِ ... ارجعي .. ارجعي . )).

       تنأى بارتباكٍ شديدٍ عن الحارة ، تتغلغلُ

في أزقّةٍ متطرّفة ، الخوف يثقل قدميها ، أنفاسها

تزعق برعبٍ :

- (( ارجعي .. ارجعي .. قد يصادفكما ابن عمّكِ .)) .

          تتباطأ حائرة ، وبعيونٍ متلصّصة تمسحُ

المكان من حولها ، تلتفتُ ، تتمهّلُ ، لتقصّر المسافة

بينهما .

                         *   *   *

       يتصاعد الخوف مشوباً بالحذرِ في قلبهِ،

ينبتُ لهما أنياب شرسة ، مدركاً خطورة المغامرة ،

يمسكُ خطاهُ عنها :

- (( لن أقامر بها وبي ، لن أشاطرها جنونها ..

ماذا لو طاوعتها ؟!؟! .. سيقول أبي :

- فضحتنا ياكلب ، جلبت لنا الدّمار ، ولأهلها العار ،

ثمّ هل تجدنا قادرينَ على مجابهةِ عائلة "

الرّهوان" ؟!.. سيقتلونكَ ، ونحنُ لن نموت من

أجلكَ . )) .
   
                         *   *   *

       بجوارحٍ مشرئبةٍ متيقّظةٍ لوصولهِ ، تتخيّلُ ما

سيدورُ بينهما من حوارٍ :

- مرحباً .

- أهلاً .

متحرّراً من تلعثمهِ ، حاثّاً خطاه بمحاذاتها :

- كيفَ الأحوال ؟.

وبنزقٍ تضعُ حدّاً لمقدّماتهِ :

- " وليد " يجبُ أن نجدَ حلّاً .

                         *   *   *

      أفاقت من شرودها على تأخرهِ ، شارفت على

تخومِ البلدة ، بجرأةٍ تستدير، فتصطدمُ بخيبةٍ

متوحّشةٍ ، تنقضُّ على جناحيها الأبيضينِ ، حينَ لا

تبصر أحداً يتعقّبها .

       ينتحرُ بريق عينيها ، أغصان بهجتها تتقصّف ،

يجفُّ نسغ الانعتاق ، وتتهشّمُ مرايا السّماء، فوق

قفار روحها ، بينما تجأر أعماقها النّازفة :

- آهٍ .. " وليد " لماذا الفرار ؟!؟!.

                         *   *   *

        في زقاقٍ متهدّم تلمح الشّمس الآفلة " فتى

النّافذة " لاهثاً بانهزامه ، يجرُّ غصّته بمشقّةٍ ، وفي

وجدانهِ الجّريح تتعاركُ الأسئلة:

- سامحيني " ياأنيسة " .. لن ألحق بكِ العار.

أهل بلدتنا لا يعرفون الرّحمة ، ليتنا " يا أنيسة "

ولدنا على كوكبٍ آخر .

                         *   *   *

      مضرّجةً بخيبتها تعرجُ على قبرِ " زينب" ، كاتمة

أسرارها ، تحملقُ الصّديقة في أخاديدِ الدّمعِ ، تشهقُ

بالسؤالِ :

- هل التقيتما ؟!

      تندُّ عن أوجاعها صرخة مسكونة بالموت :

- انهزم .

                تتكوّر الصبيّتان المنكسرتا الأجنحة ،

تبكيان أحلامهما بضراوةٍ ، ذليلة تنكفئ الشّمس ،

وبفظاظةٍ ينبثقُ ليلٌ من عويلٍ أسود ، يسربلُ حلمَ

المدينة .

               مصطفى الحاج حسين .
                                 حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق