المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الجمعة، 21 سبتمبر 2018

الحسين بنزهرة‏ مع ‏محمد البراقي الحسناوي‏ و‏‏٥٠‏ آخرين‏.

الرمزُ في الزجل المغربي
مِيلُود بابا بن العرْوي نموذجاً
تقديـــم :
يَكْتبُ الزَّجالُ النَّصَ الزَّجَلِي بِلُغَةٍ عَامِيةٍ ، ويمْتحُ مُفْرَداتهِ من الذاكرة الشعبية ، ولا يقيمُ قوانين اللغة لخلْق النص وإبداعه ، بل يجْعَلُ من مَقْبوليةِ المتلقي حكماً ، ويتخذ من قَبُول المتلقي لخطاباته شفاعةً لدى محكمة النسق الفصيح ، ولأنه لا وجود لرقابة النحو ، ولا وجود لسلطة علوم اللغة في الخلق الزَّجلي ، يغدو الزّجالُ مُتمرِّداً لطيفاً ، يُهدِّمُ منْطِقَ القانون والناموس ، ويتجاوز حدود القاعدة / القواعد ، ويُلْغي من ذهنِهِ ، كمُبْدِعَ ، سُلطةَ وسُلْطانَ القانون اللغوي ، ليمارس جريمةَ إثبات الذات في مساحةٍ لُغَويةٍ عاميةٍ لا تعْرِفُ القيد ولا الحد ، وليقترف جناية خرق علوم اللغة بسابق الإصرار والترصد .
كثيرةُ هي النصوصُ الزجلية التي (تُشغِلُ) / توظِفُ الرمز ، توظفهُ لتمثيل الأشياء مثل الأفكار والعواطف ، ولتنْزيل التصورات من سموات المجرد ، إلى أرض المُشَاهَدِ والمُشخص ، فالفنان (الزَّجالُ) ذو المخيلةِ الخصبةِ ، ينفخُ الروح في جسد اللغة العامية / الدارجة ، تلك اللغة التي أنهكها الاسْتعمال اليومي ، فتغدو ، من خلال الرمز ، لغةً حيةً قابلةً للتأويل والبحث في طبقاتها ، إنه ، الزجَّال، يحفر عمقا معْنوياً ، دلالياً ، يحث المتلقي ، على الغوص في أعماق النص الزجلي ، للوصول إلى المعنى / المعاني الموجودة فيه ، فتصبح اللغة العامية حركيةً وقويةً .
سأشتغلُ على عمل من أعمال الزجَّال المغربي " ميلود بابا بن العروي " ، لنرى كيف يخْلُقُ الرَّمْزُ الحيويةَ في اللغة العامية ، وكيف تُصْبِحُ الدارجةُ أكثر قوةً من خلال الترميز.
فالدارجةُ تُنقلُ / تنتقل إلى درجة أخرى ، يصْبِح فيها المتلقي / العادي ، مشاركا في عملية الخلق ، أو البناء الدلالي ، ويصبح البناء المألوف ، على المستوى العامي ، يصبح غرائبياً ، أو يقحم المتلقي في طقس نفسي غريب ، ــ لعلها صدمة المكتوب الغريب ــ ، ومن تمت ، تغدو النصوص الزجلية ، تسهم في زعزعة اللغة العامية ، وخلق ، لغة عامية ، مشحونة بالرمز والعلامات التي تحتاج إلى تفكيك وفهم ، وتأويل ، وسنرى أن رموز ميلود بن بابا العروي ، تعْمَلُ على خلق اللغة الدارجة الفنية ، التي تعلو على الخطاب اليومي .
1 ـ تعْريفُ الرمز :
ورد في معجم المعاني تعريف ومعنى رمز :
رَمَزَ (فِعْلُ) :
رَمَزَ ، يَرْمِزُ ، رَمْزاً، فهو رَامِزُ، والمفعول مرموز إليه .
رَمَزَ الشخصُ : غمز ، أومأ أو أشار بالشفتين أو الشفتين أو العينين أو الحاجبين أو الرأس أو أي شيء كان دون إصدار الصوت ، وذلك بقصد التفاهم .
رمز إلى الشيء بعلامة : دل بها عليه ، مثَّله بصورتها أو شكلها أو نموذجها .
يقول الكاتبُ " هنري بير " في كتابة ( الأدب الرمزي ) :
" ترجع كلمة " رمز" إلى الزمان القديم ، وملاحقتها ، ليست بذات فائدةٍ. فالكلمة ، في العصور الوسطى ثم في الكثير من تفسيرات الميثولوجيا في القرن التاسع عشر ، حملت معاني كثيرة ، فهي ، في اليونانية ، كانت تعني " قطعة من خزفٍ " أو من أي إناء ضيافة ، دلالة على الاهتمام بالضيف . والكلمة ، في أصلها ، مشتقة من الفعل اليوناني الذي يعني " ألقى نفسه " أي هو يعني : الجمع في حركة واحدة بين الإشارة والشيء المشار إليه " (ص: 7)
يمكن أن نستشف ، من خلال هذه التعاريف ، أن الرمز علامة يشارُ بها إلى شيء معين .
إما بقصد الإيهام ، أو التستر ، أو لمعانٍ أخرى ...
وعلى الإجمال : فإن الرمز وسيلة لتمثيل الأفكار والعواطف .
قد يكون من دواعي أسباب تشغيل/ توظيف الرمز ، هو الخوف من السلطة / الطبقة الحاكمة ، وذلك من أجل إبعاد الإشارة المباشرة إلى المشار إليه ، لأن اللغة حمَّالُ المعاني والدلالات ، وخزَّان للمعنى / المعاني .
يعْرِف الزَّجالُ المغربي ميلود بن بابا العروي كيف يوظف الرمز ، انطلاقا من حسٍ فني ، فيشغله في (ب) اللغة العامية ، مُفجِرا الثابت ، ومخلْخلاُ المعاني العادية ، التي أصبحت عادة عند اللسان العامي ، فهو ، كفنان ، يفتح النص الزجلي على عوالم أخرى ، ولا يقف باللغة العامية عند عتبات المعروف ، والمألوف ، بل يقتحم عباب المعنى .
لم يعد النص الزَّجليُ آحادي النكهة ، بل انفتح على عوالم أخرى ، في وضعٍ ثوالُجيٍ ، فبما أن النص الزَّجلي قَبِلَ بالحوار ، والتقاطعات الثقافية ، فإنه شرع نوافذه على العالم الرحب ، بحيث لم يعد ، الزَّجالُ ، بهلولاً ، أو مجْذوباً ، يضرب في الأرض ، لم يعد الزَّجالُ ذلك الرجل الغريب ، (عابر السبيل ) الذي يجول ويصول لنشر حكمته / حِكَمِهِ ، بل قبل هو كذلك ، بالوضع الثقافي ، وصار يقرأ ، ويتعمق ، ويحلل ، ويغربل ، ومن هنا جاء الزَّجالُ المنفتح على الفن والعلم ، وبالتالي ، فما عادت تجدي الوقفات العادية في النص الزَّجلي ، بل إن النص نفسه يدعو قارئه إلى الغوص والتنقيب والبحث عن المعنى ، بدل الوقوف في وضع المتلقي السلبي ، الذي ينتظر من النص أن يرضعه الحكمة ، أو المعاني الشعبية ، أو العبر الخالدة ...
يمكن الوقوف على رمز الحيوان في نصوص الزَّجال المغربي ميلود بن بابا العروي :
1 / رموز تنتمي لحقْلِ الحيوان :

إن توظيف الحيوان ، في الأعمال الأدبية ، عادةُ قديمةُ ، تذكرنا بالوجود الأول ، الذي كان يتأسس على الخرافة ، أو التفسير غير العلمي ، حيث استند الإنسان إلى الموجودات المنظورة لتفسير العالم غير المنظور ، ونجد أن كتاب " كليلة ودمنة " كلُهُ مبني على شخوص حيوانية ، من قبيل : الأسد ، الثور ، البوم ، الغربان ، القرد ، الغيلم ، ابن عرس ، ابن آوى ، الثعلب ـ الحمامة ، مالك الحزين ... وفيه يجري الحوار على ألسنة البهائم ، وتصبح الحيوانات عاقلة ، وقد وظفها مؤلفُ الكتاب ( اختلاف في مؤلفه ) كرموز دالةٍ على أشياء أخرى .
والشعر العربي الفصيح ، يعجُ بذكر أسماء الحيوانات ، وكذلك كتاب " ألف ليلة وليلة " .
إن توظيف الحيوان ، كرمز ، في النصوص الزجلية له طعمُ خاصُ ، ونكْهةُ فريدةُ من نوعها ،
حيث تصبح الكلمات "غير الرسمية التي لا تعد فصيحة في لغة المتحدث " ، تصبح مخْلوقاً جديداً ، ينبض بالحياة ، وتمشي في فكْر المتلقي ، وتجري في خياله ، وتفجر في اللغة العادية بئرا من المعاني والدلالات الذي لا ينضب ، حيث يقلِّبُ المتلقي المعنى على وجوهه ، ليصل ، إن هو وصل ، في الأخير إلى المعنى الذي يطمئنُ إليه ، ويرتاح له .
وقد صح عندي أن النص الزجلي لا يحقق حريته ، إلا إذا تحرر من قيود الاستعمال اليومي للغة ، ولن يخْلُقْ الزَّجالُ فناً في اللغة العامية ، إلا إذا نقلها من درجة الدارجة العادية ، إلى منزلة الدارجة الفنية ، المشحونة بحرارة الرمز ، والإيماء ، و الرجوع إلى الذاكرة الشعبية ، وكذلك الرجوع إلى العلوم المختلفة .
الزَّجالُ الذي يخلقُ الروح في اللغة الدارجة هو الفنان الحق ، لأن العبرة ليست باستعمال اللغة الدارجة ، ولكن العبرة في طريقة توظيف هذه اللغة لغايات جمالية وفنية ، وذلك من خلال خلق لغة داخل اللغة ، أي خلق لغة جمالية داخل اللغة اليومية التي تستعمل في الخطاب اليومي .
إن الزجال الحق هكذا يعْملُ : يأْخذُ المفردات من الذاكرة الشعبية ، ولكنه يصوغها وفق تمثله الخاص ، من خلال صور فنية ، ولعل الرمز أبرزها .
في نصوص الزجال المغربي ميلود بابا بن العروي نجد توظيف الحيوان بكثرةٍ ، مما يدعونا إلى القول : بأن هذا التوظيف مقصودُ من لدن هذا المبدع .
إن الزجال ميلود بابا بن العروي ، وهو يخاطب ذاته ، ويناجي نفسه ، في حوارٍ داخليٍ تتداعى معه كل جبروت اللغة العادية ، يشغلُ الرمز ، متمردا على منطق العقل ، وحدوده ، و قوانينه ،
ويخْلقُ فضاءً لا تُسمى فيه الأشياء بِمسمياتها .
يقال : أن اللغة الدارجة هي لغةُ التواصل ، وأن غايتها هو تحقيق المنفعة الاجتماعية لا غير ، فلا يطلبُ في اللغة الدارجة جمالية المبنى ، والتفنن في التصوير ، أو استعمال مفردات غريبة ، بل غاية اللغة الدارجة هو الكلام المباشر .
غير أن النصوص الزجلية ، تخرق هذه القاعدة ، وتتمرد عليها ، في ظل حوارٍ وجوديٍ دائم ، لا يرضخ الزّجالُ لقاعدة : قل كلامك بوضوحٍ ، لأن الغموض يحقق المتعة ، وينقل العقل إلى مساحة لا يمكن تشغيل العقل فيها ، بل التلذذ بذائقة روحية أو نفسية داخلية ، جوانية ، وقديما قال بعضهم : " الرمز ، يستثير المثقف ، من هنا أن الشعر أفضل القراءات "
وسنرى كيف أن الزَّجال المغربي ميلود بابا بن العروي يخاطبُ ذاته ، من خلال لغة رمزية ، مشحونة بالدلالات ، والمعاني.
لِنُلْقي نظرة فاحصةً على نصه الزجلي " يا راسي واش انت هو انت " :
يا راسي واش انت هو انت
... ملي تمشي مشية لغراب
تعدني حمامة فغار النبي مبيتة
وانت غير متلف لحساب
من سموم بوصيح لملوثة ...
تسقيني وتكول هذا مكتاب
يا راسي يلا جاتك السكتة
وما بغيتي تلاغيني ب جواب
وثيقتي بلي انا هو انت
لله زيد اخرج من هاذ الصواب
ؤُ تخايل روحك نبتة ميتة
ؤُ مفرتة على تراب لعذاب
يا راسي عافاك شوف فيَّ
هز راسك و حكك مزيان
أنا مزاوك لا تتعالى عليَّ
بزواق لبس لحرير والكثان
راه الدنيا باقية هي هي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق