المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الأربعاء، 22 يناير 2020

بقلم : عمر بنحيدي

قصة قصيرة :الهبيل(1)
كل الناس تجري نحو اتجاه واحد، و الفزع والدهشة و الرعب يحفُّونهم. سألت شابا كان يحث الخطى في نفس الاتجاه :
من فضلك. أش واقع؟
أجابتي بصوت مخنوق وأنفاس  متقطعة :
الهبيل.. الهبيل
رددتُ وراءه :الهبيل الهبيل. مالو؟
لم يتوقف ولم يلتفت جهتي البتة، وإنما واصل بنفس السرعة،.. كررت سؤالي :
مالو؟ مالو؟
_كيحب عيشة. بنت الشفناج.
جواب لا يسمن ولا يغني من جوع. ( يحب عيشة بنت الشفناج) ومن بعد؟
أسرعت قليلا لألحق به.:
_ ولكن كل الناس كتحب. مسألة عادية.
ابتسم ساخرا من جهلي بضروب الحب في هذا العصر، فقد لاحظ التباعد العمري بيننا. فواصل :
_ أٓعٓمِّى. أنتم ما كتعرفو الحب.
ازدادت دهشتي أكثر وانتفضت غاضبا:  إلزم حدودك من فضلك.
هذه المرة لم يبتسم وإنما قهقه :
_غضبك السريع دليل على ذلك. فالمحب له نفٓس وصبر طويل....
قاطعته ملطفا من حدة الجو المشحون بيننا  .:
_الحب ،!  عمُره يفوق عمُر الإنسان.
اندهش لكلامي دون أن يقول كلمة. اكتفي فقط بالتحديق في عيني مليا ثم واصل هرولته نحو مركز التقاء الجموع الغفيرة المتداعية من كل حدٓب و صوب.
قلت في نفسي لأترك  عمل اليوم إلى الغد. ولكن الآخر الذي هو أنا أيضا رفض رفضا قاطعا. مؤكدا أن لكل يوم عمله، و كل تأجيل هو مراكمة الأعمال وتركها دون إنجاز أو إنجازها بسرعة  أكبر يودي إلى عدم الإتقان.   وبعد مناقشة داخلية مستفيضة قررنا أنا  و هو   أن أشبع فضولي لأعرف ماذا يجري، ثم أقوم بالمهمة الأساسية. فهي قد تنتظر بعض الوقت.
تركتُ نصفي المعارض ورائي يجر رجليه و عدوت مع العدائين كما لو كنا في سباق ماراطون. وبعد لحظات من الركض، بدأ العياء يدِبُّ في أقدامي. وإذا بيد تدفعني حتى كدت أكبو على وجهي.
وبردة فعل سريعة لطمتُه ،فارتدت الطمة إليّٓ،   إذ كان جزئي  الآخر قد لحق بي و هو من دفعني .. استقر في مكانه، بينما تابعت الركض مع الراكضين. وبعد أقل من ربع ساعة وصلت ساحة  المدينة  وهي ذات مساحة كبيرة احتُفِضٓ بها وسط المدينة لاحتضان الحفلات الرسمية حيث تُستدعى الفرق الفولكلورية  وأيضا التبوريدة. و بأحد جوانبها توجد أعمدة  خشبية حاملة أسلاكا كهربائية عالية التوتر .
وكأنه يوم الحشر . ربما كل سكان المدينة تجمهروا  وعيونهم معلقة نحو أحد الأعمدة الكهربائية. وللأسف نسيت نظاراتي. تعبت عيناي من التحديق ولم أتبين أي شيء  البتة..
سألت أقرب شخص واقفٍ جنبي :
_أ ش كايشَفو هادو؟
أجابني صوت رخيم عرفت أنه لامرأة:
_ الهلال.
_ واه! علاه الهلال غادي يبان اليوم؟ يا الله عشرة أيام في الشهر القمري.
_ أشنو؟ اش بان ليك أنت؟ و  لاّ بغيت مع من تلاغي، زيد فحالك.  أنا متزوجة.
تأكدت  أني   أحاور إنسانة مغرورة. فالتفتُّ إلى الجهة الأخرى  وطرحت نفس السؤال  وكان الصو ت خشنا، لكنه مقنع.
_ هداك لهبيل.
_أ ش كايعمل.؟ كيصلح الكهرباء؟
_ هدا حتى هو كايقلب على من يتفلى.
بٓصٓقٓتْها  في وجهي وكان صوتها هي. محاورتي الأولى. لا أدري لماذا أنا غير محظوظ مع النساء.؟
ثم بدأ الصياح والصراخ و الأيدي تُلٓوِّح. وهناك من يصلي على النبي :
_ الله .. الله. واعندك... راه بغا يطيح.. لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
والله مصلى عليك  أ رسول الله.
كانت الأنفاس متقطعة والأعين منفلتة من محاجرها والقلوب طبول في ساحة الوغى .. كل هذا الجمهور يعرف مايجري إلا أنا. ولكن العتب على النظر. و...
قاطعني نصفي الأخر منبها : ولكنك تتوفر على جهاز رادار. استخدمه.
فعلا. هذه المرة معه حق. ففتحت الجهاز. وبدأت أفهم :
امرأتان قربي تتحدثان بصوت مسموع :  _ هاداك هبيل بصح.
_شكون هو ؟ ساكن في الدرب معانا؟
_ ولد الگراب. معرفتيه؟ الكبير. آه ! آه ! تيقولوا : ( الكبيرة في الگرگاع خاوية).
_ماخدامش والو؟
_خدام!. خدام يتقرقب كول نهار داير جريمة..
_ راه بالديبلوم. وداير هاد الحالة.
_ أش من ديبلوم حتى أنتِ.
_ لآّ.. عندو ليسانس.
_ لاحول ولاقوة إلا بالله!
توقفتا عن الكلام وبدأتا  كالجمهور ترددان اللطيف. ( يا لطيف و يا لطيف...) سيارات الشرطة بكل أصنافها والقوات المساعدة بخوذاتها و هراواتها  وفي الأعلى  فوق مٓيّٓزْتُ صوت  طائرة عمودية تحوم فوق الرؤوس.. ورغم أنّٓ الأصواتِ عالية والهتافات  لامتوقفة، فإن أحد رجال المطافئ اقترب من العمود الكهربائي وهو محمول فوق سلم متحرك.  و ممسكٌ مكبراً  للصوت:
_ أسمك أولدي؟ أسمك؟ .
وجاء الرد خافتا  لكن رجل المطافئ ردد وراءه :
أنت إبراهيم  ولد الگراب؟  ثم أردف بسؤال سريع: علاش طالع فوق. راه خطر على حياتك.
وبعد لحظات سلطت الهيلوكبتر الضوء  على العمود. فتببنتُ شابا في مقتبل العمر.يبلغ حوالي أربعة وعشرين ربيعا. يرتدي  سروالا قصيرا فقط. وهو  في حالة هياج حاد. فقد بدا لي مُلٓوِّحًا بيده،  حاملاً سيفا  لامعا .... وكلما اقتربت الحوامة  أكثر كلما  هدّٓدٓ بسلاحه الأبيض. ثم  واصل  الإطفائي  حواره معه محاولا  إلهاءه بينما يتكفل آخر من الهبوط من الحوامة، لكن الشاب تٓنٓبّٓهٓ إلى خدعتهما، فأشهر سلاحه متوعدا إياهما بضربة قاتلة و في أسوإ الحالات سيغمدها في بطنه.
وحتى يسمع الجميع طلبات الشاب القابع فوق العمود وتحيط به أسلاك الكهرباء العالية التوتر أو  القوة، فإن إطفائي الطائرة ألقى له بمكبر صوت. لكنه كان شديد الحذر، بحيث تفحصه بعين واحدة وبالأخرى كان يراقب الأعلى و الأسفل ، قبل استخدامه.
تساءلتُ : _الحياة أثمن مايملك الإنسان، فكيف يتخلى عنها لأجل أشياء أخرى، مهما عٓلٓتْ قيمتها فلن تضاهيها أبداً. و.. آه.! لقد بدأ الشاب يتكلم :
_ بغيت نتزوج.
كان صوته مليئا بالتحدي والثقة بالنفس.
رد عليه أحد الإطفائيين :
_مبروك. انزل باش تزوج. انزل..
لمس بسيفه أحد الأسلاك فتطايرت شرارات متراقصة أمامه ،لتنطفئ و هي تهوى نحو الأرض فوق رؤوسنا.
_جيبو عيشة بنت الشفناج والعادل   سي العربي. دابا. عندكم نصف ساعة.
أسرع أحد أعوان السلطة إلى بيت الشفناج . وما هي إلا لحطات حتى عاد ومعه شابة  جميلة، لكن دموعها ( هل خوفا على الحبيب المتهور أم خوفا منه) أفسدت كل زينتها. كل الفضوليين يعرفون اسمها الان. فقد كشفه الحبيب وهو يطالب بإحضار ها  ( عيشة.).
تقدم منها أحد عمداء الشرطة. طمأنها ، و شجعها على الحديث معه، و إقناعه بالنزول. ناولها مكبر الصوت، وبدأت تستعد للحوار معه،.
وما إن رآها حتى جن جنونه. فضرب بسيفه أحد الأسلاك لتتطاير الشرارات فوق الرؤوس. فتفرق الجمع هاربا من اللهب. واستغل هو الفرصة لينقض كالصقر على عيشة ويحملها إلى فوق العمود الكهربائي. وكاد يصطدم بالحوامة لكنه تجنبها ليلمس احد جناحيها سلكا كهربائيا. وكان انفجارها مدويا. أما الهبيل فقد فر بحبيبته كالرجل الخارق...
                    **********
في الحقيقة منذ أزيد من سنة وانا مواضب على زيارته في مستشفى المجانين. ولأمتحنه فإنني أسجله خُفية،.أقارن  التسجيلات. نفس الحكاية. دون زيادة أو نقصان. فوالله لا أعرف من منا المجنون؟ هو أم انا؟
(1) الأحمق أو المجنون.
عمر بنحيدي 21/1/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق