المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الاثنين، 30 مارس 2020

بقلم : توفيق ركضان القنيطري

قصة قصيرة   *سعاد حب العمر *

في جو بارد بقرية بنواحي مدينة الحسيمة المغربية  حزمت حقيبتي إستعدادا للسفر..  للرجوع إلى مسقط رأسي  القنيطرة بعدما حلت عطلة صغيرة عن العمل تمتد لأسبوع..لملمت أغراضي بسرعة وفرح..سأتخلص قليلا من ضجر العمل المتعب وظروفه المتردية..
بخطوات سريعة قررت قطع مسافة سبعة كيلومترات من طريق غير معبدة  تحفها الأشجار من جانب و حافة تطل على الجرف من جانبها الآخر..صادفت راعية شابة لقطيع أغنام فقلت لها ضاحكا :صباح النور على (البنور )
ردت ضاحكة: صباح الخير يا وجه الخير
أكملت المسير وشعور غريب يراودني أنني سأحصل على مفاجأة سارة تكسر رتابة الرحلة..
...بعد ساعة وجدتني بمحطة سيارات الأجرة  بقرية  (إساكن ) القلب النابض لمنطقة كتامة حيث تنشط تجارة المخدرات..حجزت مكاني خلف السائق والوجهة مدينة تاونات..نبضات قلبي تتسارع ضعف سرعة السيارة  كيف لا والحنين إلى البيت والعائلة يحلق بي عاليا ؟!
وصلت لتاونات فتوجهت بسرعة لمحطة سيارات الأجرة المتوجهة لمدينة فاس فحدث شنآن بيني وبين من ينظم الرحلات   أراد بعنصرية تقديم راكبين أتيا من بعدي فمنعته.. دفعني بقوة فباغثته بركلة على بطنه حتى تناثرت القطع المعدنية بمحفظته التي كانت تتدلى من حزامه..تحلق الناس وأراد أصدقاؤه التكالب علي - وبما أنني أعمل بمنطقة طريقها ليست آمنة ويغشاها المجرمون بين الحين والآخر كنت دائما أحتاط للدفاع عن نفسي بخنجر أضعه في جيبي الخلفي- أخرجت سلاحي وأشهرته في وجوههم فعم الصمت المكان صرخت بهم بجرأة : من اقترب مني ستبكي عليه أمه..
نادى أحدهم ضابطا من القواة  المساعدة  وأخبره أنني أملك سلاحا أبيضا فأسرعت إليه وهمست في أذنه: أنا معلم وهؤلاء أرادوا الإعتداء علي لم أكد أنهي وشوشتي حتى صرخ فيهم ألا تحترمون أحدا ؟! وأجبرهم على الهدوء وتقديمي للركوب أولا وسألني من أين أنت؟ : قلت له بفخر: من أبناء القنيطرة ابتسم وقال لي بصوت خافت: لقد رأيت المشهد من الأول وأدركت أنك لا ترضى بالظلم وكنت تدافع عن نفسك أمام شردمة من أبناء الشوارع أدرك سلوكهم المشين لكن لا تعد لإشهار سلاحك قد يعاقبك القانون..ارحل بسلام يا قنيطري قالها وهو يبتسم ورحل..
ركبت سيارة الأجرة كراكب أخير بالمقعد الخلفي جوار فتاتين جميلتين لم أبالي بهما لنوبة الغضب التي تملكتني بعد عراكي مع هؤلاء..وضعت السماعات على أذني واتكأت أستمتع بالموسيقى المفضلة لدي في انتظار الوصول إلى مدينة فاس..
فجأة.. أحسست بأصبع يلمس كتفي استدرت عن يميني فإذا بإحدى الجميلتين تبتسم ببهاء وتلتمس مني أن أشاركها الاستماع للموسيقى.. تعجبت من جرأتها وأخفيت شبح إبتسامة شقية راودتني..قلت لها : إن أردت مشاركتي الإستماع فاقتربي مني أكثر التصقي بي فوافقت ونظرت إلي بنظرة لسان حالها كان يقول فهمت غرضك ياشقي.. لففت ذراعي حول كتفها ووضعت رأسها على كتفي واستغرقنا في الاستماع وبين الفينة والأخرى كانت تعبر عن إعجابها بذوقي الموسيقي..استرسلنا في الحديث والضحك وكأننا صديقين حميمين والغريب أن رفيقتها لم تنبس ببنت شفة طوال الطريق..عند وصولنا إلى فاس استفسرتهما عن الحافلة التي ستوصلني إلى محطة القطار فقررتا مرافقتي إليها بكل نبل..
قلت للجميلة التي شاركتني الموسيقى وكان اسمها سعاد
إن كنت محظوظة  فعندي لك هدية في كشك الجرائد بالمحطة قالت: وماذاك؟ ! قلت لها: أنأ أكتب بعض الخواطر وأنشرها بالجرائد والمجلات كهواية أملأ بها وقت فراغي وأؤنس بها وحدتي وقد كتبت شيئا عن طيف ساحر أحلم به ولم أره من قبل..
اشتريت الجريدة ووجدت خاطرتي منشورة وعليها توقيعي فطلبتْ مني إلقاءها فقلت:  ( أيتها الغريبة الحائرة الهائمة التي لا مأوى  لك تعالي هنا في قلبي مأواك.. تعالي وسأ جعل لك فيه برجا من فيض أحلامي.. تعالي وسأ جعل  لك فيه أرجوحة تقضين فيها ماتبقى لك من العمر أمامي..تعالي وابتسمي.. ففي صفاء ابتسامتك أستحم عاريا أزيل غبار السنين والأيام...) لم أكد أنهي الإلقاء حتى قالت بتعجب: أصبت مخي بارتجاج يا رجل!! قلت لها: كيف؟! ردت بحيرة وشرود : مابين عنفك في المحطة وكلماتك المرهفة الآن أدخلتني متاهة إدراك طبيعة شخصيتك..ابتسمت وقلت لها  : لا عليك ستعرفينني جيدا لاحقا..عرضت علي ارتشاف فنجان قهوة بمنزلها..كأي شاب يافع تنقصه التجربة تفاجأت بعرضها وتسلل بعض الخوف لنفسي لأني لم أعتد تلقي عروض جريئة كهذه..فكرت لحظة واعتذرت بلطف قائلا  : وضْعي لا يسمح  وإن كنت أتمنى لكن علي زيارة أسرتي والاستحمام ولقاء الأصدقاء..تقبلت اعتذاري وكتبَتْ رقم هاتف البيت الثابت لأن في ذلك الوقت  لم يكن الهاتف المحمول متاحا.. وعدتها بالإتصال قبل انتهاء العطلة وودعتهما على أمل اللقاء القريب..
صعدت القطار وصورة سعاد لا تفارق مخيلتي كانت جميلة ومؤدبة وذواقة لم ينسينيها إلا حضن أمي وأبي وفرحة اخوتي عند الوصول..
مرت بعض أيام العطلة بسرعة البرق..قررت الاتصال بسعاد وكم كانت فرحتي كبيرة حين عرضت علي قضاء يومين على الأقل عندها..
حملت حقيبتي على ظهري وركبت القطار تسبقني لهفتي لعيش تجربة مثيرة تؤنسني في وحدتي..
وعند الوصول وجدتها تنتظرني بشوق بفستان أسود ونظارات  شمسية سوداء وابتسامتها تسبقها إلي.. عانقتني بالأحضان وقالت : سعيدة بقدومك خشيت ألا تأتي
قلت : أكون  غبيا إن رفضت دعوتك سيدتي الجميلة
رفضت الجلوس بالمقهى فتوجهنا إلى بيتها
كم كانت مفاجأة لي!! لقد أدركت أنها تعيش  حياة  متحررة دون قيود أو خطوط حمراء .. استقبلتني بحفاوة.. ألِفتُ المكان بسرعة عجيبة وكأنني أنتمي إليه..تخففت من ملابسي واستلقيت على أريكة أمام التلفاز أنتظر خروجها من غرفة أختها.. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما شاهدتها قادمة إلي بقميص نوم وردي وابتسامة جريئة قالت بزهو: كيف أبدو؟ ! قلت لها : وردة جورية  جبن أحمر مستورد..ضحكت ضحكة داعرة وأشعلت حرائق الشهوة  لساعات انتهت باستحمام مشترك وقهقهات ماجنة.. وغفونا متعانقين بعدما انعدم الإحساس بالوقت..
استفقنا على رنين جرس الباب وعودة  أختها تحمل عشاء شهيا تخللته نكات وتتمة تعارف بيننا..
دعوتهما لسهرة بمكان جميل فرفضتا قالت  سعاد: فلنخرج في جولة خفيفة بساحة  (فلورونس) ثم نعود..كانت خلالها تمسك يدي وتغني لي بصوت خافت مقطع من اغنية أصالة نصري  (مابحبش حد إلا أنت...) وأنا أحلق كعصفور هائم من السعادة..حين أحسسنا بالتعب جلسنا بالحديقة وتحدثنا عن طبيعة عملي وظروفه الصعبة واقترحت عليها قضاء عطلة الصيف معي بشاطئ (كيمادو ) بالحسيمة فوافقت دون تردد وعانقتني وقالت : أتمنى البقاء معك طول العمر..
عدنا إلى البيت فوجدنا أختها نائمة وانتهزنا الفرصة وعزفنا سمفونيات العشق حتى  الصباح كنت كمن يشاهد حلما جميلا يخشى أن يستفيق منه..حب وغنج ودلال ورقة فوق الوصف.. عند الضحى قررت الرحيل.. رجَتني للبقاء يوما آخر ولما أصريت على السفر قامت بمرافقتي إلى المحطة وبعيون حزينة ودعتني على أمل لقاء قريب..
ماتبقى من الموسم الدراسي مر بسرعة البرق في ظل سعادة لا توصف وعلى أمل قضاء عطلة مميزة مع حبيبتي سعاد...
بعد حزم حقيبتي اتصلت بها وحددت موعد السفر كما اتفقنا وكانت تنتظرني على أحر من الجمر..
ركبنا الحافلة والوجهة جوهرة الشمال الحسيمة المدينة الجميلة بطبيعتها الساحرة وهوائها النقي وشواطئها الذهبية النظيفة وسهراتها الصيفية الصاخبة..
قضينا شهرا كاملا بين السباحة نهارا والسهر مساءا والاستمتاع ببعضنا ليلا..شهر عسل ولا في الأحلام
في آخر يوم عرضت عليها الزواج كتتويج لحبنا لكنها
رفضت قالت لي:  أنا أحبك بشدة أكثر مما تتصور لكنني لا أستطيع العيش معك في تلك الظروف ولا أستطيع ترك أختي لوحدها..أُطلب الإنتقال لمدينة فاس ونضرب عصفورين بحجر واحد نتزوج وأبقى قريبة من أختي..
كلامها جعلني أستيقظ من حلمي الوردي وأتلقى صفعة الواقع المرير وخطر ببالي سؤال محير لماذا يعاندني حظي؟ 
تمنيت عملا شريفا فحصلت عليه لكن بظروف صعبة جردتني من آدميتي واغتالت أحلامي ومع ذلك صبرت وقاومت..
وتمنيت الحب فوجدته لكنه  على وشك التحطم بسبب إكراهات ظروف عملي وكذا عشقي لمسقط رأسي القنيطرة حبيبتي الأبدية..التزمت الصمت حين سألتني هل أنتظرك حبيبي؟!
ضممتها بحنان وقبلتها بحرارة وكأنني أودعها للمرة الأخيرة
فاضت عيناها بالدموع وأنا أوصلها لبيتها شارد الفكر متثاقل الخطوات..عميت عيناي إلا عن وجهها الملائكي وهي تتوارى خلف الباب وإشارة يديها تذكرني بالإتصال عبر الهاتف بعد الوصول..
بعد تفكير عميق قررت التضحية بحبي لاستحالة الانتقال لفاس ولرغبتي في العيش بمسقط رأسي.. وكم كان صعبا علي التوقف عن حبها بعدما استوطنت حشاشتي وصار طيفها ونيسي في وحدتي..
لم تنتهي قصتي هنا...
تزوجت بامرأة ساقها لي القدر حاولت التعايش معها لكن حبي لسعاد ظل في ركن سحيق من قلبي يطل عند ظهور  مشاكلي الزوجية ويختفي باختفائها حاولت أن أنسى مع دوامة الحياة ولم أستطع.. ربما ظلمت زوجتي مكرها لكن ما كان باليد حيلة..
بعد 11سنة زواج انفصلت عن أم الأولاد لإحساسي بأنني
أحيا الموت قطرة قطرة..انهار صمودي بجفاف عاطفي اغتال رومنسيتي الحالمة فقررت البحث عن حبيبتي سعاد..
بعد 20 سنة وجدت اسمها على الفايس بوك فطرت من الفرح  وفي نفس الوقت غمرني القلق من احتمال ان  تكون لها أسرة وعالمها الخاص...تشجعت وأرسلت لها رسالة ( أنا توفيق القنيطرة/الحسيمة) هل تذكرينني؟ 
أجابت في الحين: أنا أبكي من الفرحة اشتقت إليك
قلت لها: شوقي لك مضاعف..لكن ما وضعك الإجتماعي الآن؟
ردت : أنا مطلقة
ترددت هل أواسيها أم أهنئ نفسي بكونها متاحة؟!
اتفقنا على اللقاء وكان بشاطئ أصيلا قرب مدينة طنجة
يا إلهي كم كان اللقاء حارا مثيرا وممتعا؟ !
تغير طفيف طرأ عليها برزت بطنها قليلا لكن الجمال الذي سحرني وخال الحسن على شفتها العليا ازداد بهاءا وألقا..
عرفتها وسنها 18سنة والآن ومع نضج العقل وخبرة الحياة بدت سيدة ذات نخوة وبهاء بحق
قلت لها : ما لم نفعله سابقا ننهه الآن فما رأيك؟ !
قالت :كيف؟
قلت: نتزوج الآن
ضمتني ودموع الفرح بعينيها ورأسها يومئ بالموافقة..
فنظرت إلى البحر بسعادة وخاطبته   :  أنت الشاهد على قصة حبنا من أولها إلى الآن ولأنه صعب أن أدعوك لحفل الزفاف فسنقيمه على شطك يا رمز حبنا.

توفيق ركضان القنيطري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق