المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الأحد، 16 فبراير 2020

بقلم : باسم عبدالكريم الفضلي

......{ شعرية بنية اللغة السردية  }.......
دراسة تحليلية في لغة القصة القصيرة " قلوب باردة "
للاديبة السورية " جوليا علي "
القصة
*****
{ هذيان الرياح، هذا النهار ، هدَّ هدوء الاشجار، فهمهمت أوراقها متهاوية ،  عن أغصانها المتهالكة ،على جدران حديقة دار، تنطق قسمات ردهاته، بوجوم  وجوه المسنين ، كانت كعادتها في مثل هذا اليوم ، مع أزوف جديد موعد نسيانها  ، تقودها قدماها المرتعشتان ، لتتكوَّم لاهثةً ، في ظل صنوبرة عجوز،على  مصطبة خشبية ، رحل عنها طلاؤها ، فصارت تذكِّرها  ببعيد زمن لاتذكره ،  هجرتها  فيه جميع الفصول ، سوى  حضن  مهجعها ، ظلت اليأس يرتديها ، ويخلعها  الحنين لاتملُّ عزلتها ، وقتها نفت عنها كل اللغات ، ولم تعد تتحدث إلا  بعينين ذابلتين ، تذرفان حروفا حبلى بأسرار انطفائها ، لكم تاقت ان يتمخضنَ  مَرَّة ، فيلدنَ مفردات من جمر، يصرخنَ  لهيباً، بما في دواخلها  ، كان  اليأس يرتديها ، ويخلعها الحنين ، وعيناها مشدودتان بلهفة مُرَّة ، صوب  مدخل الزوار، لطالما تمنّت أن يأتيها أحد ما؛ أيا كان، لكن ...،.غير أنها  ،  لمحت طيفا ، سرعان ما منعتها دمعة حائرة، ترقرقت في مآقيها، من أن تتبينه،  ما كادت تستحضر من بين خرائب ذاكرتها  صورته ، تنطق اسمه،
حتى سبقها الصمت، ببناء الحجر الأخير، من جداره على فمها.}
----------
الدراسة
**** 
يمكن عدُّ هذا الخطاب الادبي ، مما يندرج في خانة النصوص المتداخلة الاجناس
( اي التي تتداخل في بنية لغتها التعبيرية ،عناصر فنية للغة جنس ادبي اخر او اكثر  )
  ،فنسيج لغته السردية ، موسوم بجماليات وتقنيات اشتغالية شعرية حداثوية (  كالتكثيف ، الترميز،الصورة الشعرية ، الانزياح ،  الايحاء ، الإيقاع  ..إلخ  ،) ، كما ستبينه الدراسة لاحقاً ،كمركبات لبُناه الأسلوبية ، في سياق لغوي  ـ عاطفي ، و يتمظهر هذا التعالق في المستوى الدلالي ،الصوتي ، والازاحي ،  مما مكّن الكاتبة من خلق فضاء تعبيري رحب الثراء ، خصب التوليد للدلالات ،  وهذا ما فتح النص  على تعددية قرائية ومن ثم تأويلية ، وفق هذه المقاربة :
    نص منتج للدلالات =  طبقات المعنى + طبقات القراءة
وهذا ماستشتغل عليه دراستى ، وابدأها بتفكيك بُنى العتبة العنوانية (  قلوبٌ باردةٌ ) ،التي يبدو  الانطباع الاولي عن معناها الظاهر انه مباشر  مستهلك المعاني مما يباعد بينه وبين اللغة الشعرية ، وقصدية التفكيك الحصول  على آلية ( مفتاح ) تأويلية لدلالات اشارات لغة متن النص ، ومقاربة  مقاصدها، فالعنوان يمثل  النواة الدلالية المولدة للدلالات الفرعية الأخرى  المبثوثة في المتن ، ويرتبط معه بعلاقة تكاملية ،ترابطية وحتى جدلية فهو  يسأل / يعلن ، و المتن يجيب / يشرح او يفسّر ، والأهم العثور على خصائص لغة  شعرية في معناها التحتانيى  :
  * بنيتها الدلالية :
العبارة  بتمامها ذات سياق احالي مقامي / خارجي  ، لتحديد معناها العميق / التحتاني  فدلالتها السياقية اللغوية  ،  لاتتعدى مجالها المعياري كما يلي :
المدلول المعجمي لكلا الاشارتين الدالتين ( قلوب ، باردة )
ـ قلوب : جمع قلب ، من اعضاء جهاز الدوران
ـ باردة : فاقدة الحرارة ، مقابل ساخنة او حارة .
وهي دلالة غير متسقة في سياق اللغة الادبية.
اما احالتها المقامية / سياق الموروث والثقافي الشعبي تعني :
  المشاعر المتبلدة ، عديمة التعاطف مع الاخرين ، فالقلب في الموروث الثقافي الشعبي 
  ارتبط في اللاوعي الجمعي بالمشاعر حتى صارمتعالقاً معها ، باعتباره وعائه  ومصدرها ، واتصافها بالبرودة  ( قلوب باردة ) ، دلالة على عجزها عن  التفاعل الحسي العاطفي ،فبرودة الاجسام تعني فقدانها الحرا  رة  ، التي  ارتبطت
حياتياً بالحركة كعلًةٍ لها، وكما في المقاربات المعنوية التالية  :
ـ الاشارة قلوب = مصدر الشعور
الشعور = اثر حسي حي يتولَّد عن اشتغالات ( نشاط حركي ) الجهاز العصبي ، فهي اذن متصفة بالحرارة
بتجميع هذه الدلالات :
قلوب = مصدر المشاعر الحارة الحية
  باردة = فاقدة الحرارة
فاقدة الحرارة = غير متحركة / خامدة ، ميتة
وبتكثيف دلالة باردة  : 
باردة = خامدة ، ميتة
ثم بتجميع دلالات الاشارتين   :
قلوب باردة = قلوب ميتة الشعور ، قاسية ومن مرادفاتها ( عديمة الرحمة  ، فاقدة لإنسانية التعاطف )
والدلالة هنا مزاحة عن معناها اللغوي / دلالة تحويلية
  بذا يكون المعنى التحتاني للعتبة مولداً  لدلالتها الفوقانية / الظاهرة  على السطح
* البنية الصرفية :
ـ قلوب /  ج. قلب : اسم آلة جامد ،
  ـ باردة : اسم فاعل من الفعل الثلاثي / برد ، وهو فعل لازم ( يلزم فاعله لايتعداه ) .
  المقاربة المعنوية لدلالة ( اللزوم ) ، بإحالتها مقامياً  / سلوك اجتماعي ، هي :
  الانانية  ، المنع ، الإثْرة ، عدم التواصل مع الغير
  وهذه المقاربة تكافئ دلالة الفعل اللازم في سياقه النحوي فهو اناني يؤْثر
  الإكتفاء بفاعله حسب ، و لايؤثِّر فيما بعده اعرابياً ( بما يكافئ دلالةً / عدم التواصل معه ) ، وبمقاربة دلالتها المقامية  :
قلوب ميتة الشعور = انانية لاتتواصل عاطفيا مع الاخرين
بذا عمّقت بنية الاشارة ( باردة ) الصرفية ، معنى بنيتها الدلالية اعلاه
* البنية النحوية  :
تفكيك الجملة العنوانية يخلص الى ان المُسند محذوف ، كما يلي :
  ـ قلوبٌ : مبتدا مخصص بالصفة ( باردةٌ ) ، التي جعلته احدى النكرات التي يجوز
الإبتداء بها ، وفق قاعدة (المسوغات ) النحوية ، و الخبر محذوف جوازاً ، يُقدّر 
سياقياً ( السياق النحوي ) بضمير الغياب ، اما تقديره في سياق الدلالة العميقة
/ التحتانية للعتبة ، فمؤجل حتى اتمام  تفكيك كامل النص.
  *البنية التركيبية :
  جملة العتبة ، جملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار، وهذا يكافئ دلالياً ديمومة قسوة
تلك القلوب ، و انزياحها التركيبي ، بحذف خبرها / المسند ، يؤدي وظيفتين دلاليتين
  داخلية وخارجية :
  - الداخلية ( نصية ) : تبئير المسند اليه ( المبتدأ ) ،اي الايحاء بأنَّ دلالته التحتانية
  ، السابق ذكرها اعلاه ، ستكون بؤرة المعاني التي تدور حولها فكرة القصة الرئيسة
  - الخارجية ( خطابية ) : شدّ انتباه وفضول القارئ ( مفهوم الاستدراج )، فالحذف
  يعني ان هناك مسكوتاً عنه  يثير سؤالاً مقاربته هنا :  قلوب من ؟ ،وهو يحيل الى
  النص ، فالبحث عن اجابة عنه ، يدفع ذاك القارئ للدخول الى عالم القصة ( فهم النص ) ،
ولنعرض بإيجاز سمات ما افضى اليها اشتغالنا التفكيكي من دلالات ومقاربات
معنوية لبنية العتبة اللغوية وكما يلي :
-  تعدد دلالاتها الاشاراتية / سطحية وعميقة،  مما يجعلها ( شيفرة دلالية مكثفة )  ،
-   الإنزياح التركيبي  فيها / الحذف له هذه الدلالات :
أ - افرز المحذوف  توتراً انفعالياً ، بقصد اشراك القارئ في انتاج معنى العام للقصة
من خلال دفعه الى تقدير دلالته والبحث في عالم النص الداخلي عما يقارب تقديره معنىً
ب - اثارة سؤال يحيل الى النص ، يعني وجود ترابط  دلالي جدلي بينها ( اي العتبة )
وبين متن القصة الذي يقوم بالإجابة / التوضيح والتفسير.
  ج ـ بؤروية المسند اليه ، رسم ملامج اولية لفضاء النص الدلالي  ،
- تعدد سياقاتها النصية  ( لغوية ، مقامية )
وهذه السمات هي ذاتها سمات العتبة العنوانية للنص  الشعري ، وهذا هو  التقارب التعبيري الاول بين سيميائية  اللغتين الشعرية والسردية .
  وبالإتكاء على هذه المخرجات التفكيكية ، ساقوم بدراسة تحليلية لبنى اسلوب  المتن للوقوف على مدى شاعريتها هي ايضاً وستأتي استشهاداتي النصية مقتضبة ،  دفعا للاطالة وكذلك لصحة تعميم مايتحقق من نتائج على بقية.شواهد كل بنية  .
بدايةً :  اللغة الشعرية الحداثوية لغة انفعالية ،اشاراتية ، وسبق لي ذكر  عناصرها الفنية و تقنيتها التعبيرية في مقدمة هذه الدراسة ، شتى انواع  الانزياحات ؛التركيبة و الدلالية ، كذلك الصور الإيحائية و المجازية  .التكثيف ، التخيّل ،وايقاعات تنغيمية حرفية ( فونيمات ) ، نبرية او (  سجعية ) وغيرها ، تشدها الى بعض روابط نسقية في سياق فني متين  الحبكة ،  وتشتغل صيرورة كل هذه العناصر حدثياً ، في فضاء ( نفسي / مكزماني ) مشحون  بالاحباط ومشاعر التصدع الذاتي لبطلة القصة ، وتنعالق تقنيات  اللغة  الشعزية التي وظفتها الكاتبة ، مع تعبيرية السرد القصي للمتن ،  على اكثر  من مستوى  :
  ــ المستوى الصوتي :
  نجد ان اصوات الاحرف ذات الايحاءات الحسية السلبية الاكثر تكراراً قد هيمننت على الفضاء النفسي للمتن وكما يلي :
  الهاء  : تكررت 52  مرة / دلالته الحسية : اليأس ،الحزن ، الألم والوهن
التاء 64 مرة /  الحزن ، الاعياء
  الميم  44 مرة /  الم وحزن وهن
النون  61مرة /  كدلالة الميم
الحاء 14 مرة / الحنين  ، الاشتياق
الفاء 18 / الضعف والوهن
مجموعها = 253  مرة في نص بلغت عدد مفرداته / 148 مفردة
المقاربة المعنوية للفضاء النفسي الذي رسمت ملامحه الاحاسيس التي تثيرها  اصوات الاحرف اعلاه يمكن تركيبها بإستحضار بعض مرادفاتها المحددة المعنى    كما يلي :
  ( اليأس ) ؛ الاستسلام ، لاخلاص + ( الحزن ، الالم ، الوهن )  ؛ لاسلام داخلي + (الحنين ،الاشتياق) ؛ الحرمان ، الفقد =  الغربة  المكانفسية ، النفي الوجودي/ حضور غياب الزمن
كما ان صوتَي الهاء  الاولى في اولى مفردات المتن (  هذيان ) ، والاخيرة في اخر مفرداته ( فمها )  / صوت حرف الالف بعدها يطلق صوت الهاء متلاشيًا فيه كونه حرف مد ، مثّلا  مطلع وخاتمة توليفة نغمية حزينة شكلها  سمعيا  تناوب تلك الاصوات ، حيث بدأ  هامساً ( الهاء من الحروف المهموسة ) وانتهى متصاعدا كأنه يطلق وجعا  استوطن  دواخل بطلتنا تلك ، باتّساقية مع  تصاعدية الحدث النصي .
واتبعت الكاتبة (  آلية النغيم ) لخلق بنية ايقاعية تتناغم مع الفضاء التعبيري وتعمق ايحاءاته النفسية ، واعتمدت هنا ايقاعين :
الاول ـ الايقاع النبري  :
( هدّ هدوء ) ، (فهمهمت ) ، ( اوراقها متهاوية )، ( اغصانها المتهالكة ) ، ( قسمات ردهاته) ، ( وجوم وجوه)
الثاني ـ الايفاع السجعي :
( النهار / الاشجار ) ، ( متهاوية / متهالكة ) ، ( كعادتها / نسيانها ) ،
ويتضح لاتكلفية الكاتبة هنا ، في جعل العبارات هي من تختار ايقاعها ، فلا لزوم لما لايلزم
ـ المستوى الازاحي وانواعها :
*الازاحة الدلالية كما في  :
(هذيان الرياح ) ، (فهمهمت  اوراقها) ، ( رحل عنها طلاؤها ) ، ( اليأس يرتديها )، (ويخلعها الحنين ) / هنا تكثيف دلالي .
* الازاحة التركيبية :
1ـ التقديم والتأخير :  (تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاتُه ) ، (  لاتملُّ عزلتَها مواسمُه )، (عيناها بلهفة مُرَّة مشدودتان )
2ـ الحذف : ( لكن ... )  ، ( لمحت طيفا ...) ، ( ولكن ...) / توتز ايحائي
* الازاحة الاحلالية  : ( هدَّ هدوء الاشجار) ،  ( تنطق قسمات ردهاته، بوجوم وجوه المسنين )
ـ مستوى الصور الفنية : صور متعددة الدلالات ، غرائبية ، لاواقعية ، تثير الدهشة واشتغالات الخيال لدى القارئ :
  (حديقة دار، تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاته ) ، ( هجرتها  فيه  جميع الفصول ، سوى  حضن  مهجعها ) ،( تذرفان حروفا حبلى بأسرار انطفائها )  ،(ببناء الحجر الأخير، من جداره على فمها.)
ـ مستوى السبك والانسجام / الحبك  :
*التكرار ( الإحالة الداخلية إلي ما هو سابق ) كما في ( حديقة دار، تنطق  بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاته ) حيث يعود الضمير الهاء على متقدم عليها  ( دار ) / كذلك في  (على مصطبة خشبية ، رحل عنها طلاؤها )
*التضاد ، التقابل : ( تنطق / وجوم ) / ( تذكِّر / لاتتذكر  ) / ( يرتديها / يخلعها )
* العطف  : بحروف عطف ظاهرة ( الفاء / فهمهمت ، الواو/ ولم تعد ، ولكن )  الخ *علاقات الربط: (بالوصل والفصل، والأضافة، ).وهي واضحة في النص.
  بذا تتحققت شاعرية لغة المتن السردية كما تحققت قبلاً في العتبة العنوانية  واستطاعت الكاتبة تذويب الحدود الاجناسية التي تفصل بين الاتواع الادبية  بنجاح .
ــ باسم الفضلي العراقي ـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق