المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

المغرب / الناقد عبد الرحمن الصوفي

الأربعاء، 27 مارس 2019

دراسة نقدية مستقطعة : عبدالرحمن الصوفي

دراسة نقدية  مستقطعة لتجربة الشاعرة مليكة الجباري ( الجزء الرابع ) / المدخل اللساني  / الدراسة المستقطعة من إعداد : عبدالرحمن الصوفي المغرب

================== تقديم =============

بسم الله الرحمن الرحيم

ظهر تحليل الخطاب قويا في مجال البحث اللساني ، تبعا لمجموعة من اللسانيين الذين تجاوزوا مفهوم الجملة ، باعتبارها الوحدة اللسانية الكبرى القابلة للوصف والتحليل إلى وحدات أكبر من قبيل الملفوظ والنص والخطاب ...فانفتحت اللسانيات على حقول معرفية كثيرة فاستفادت من آلياتها وأدوات تحليلها ، كالنقد الأدبي وعلم النفس وعلم الاجتماع ...فأصبح من نتائج ذلك ظهور لسانيات النص واللسانيات النفسية واللسانيات القانونية ...ورغم ذلك فتحليل الخطاب يتجاوز الشرح والتفسير والتحليل إلى أبعاد دينية ولغوية وسيميائية ولسانية تمتزج فيه المعارف قديما وحديثا   ، حيث جمعت اللسانيات النص مابين اللغة والنحو والصرف والبلاغة والنقد ، وجمعت كذلك بين علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والمنطق وغيرها ، على أساس أن كل هذه العلوم يؤثر في المتلقي على حد سواء . سنركز في دراستنا اللسانية لديوان ( رؤى آجلة ) على مستوى خارجي ، أي المستوى الفونولوجي ، والمستوى الصرفي ، والمستوى الدلالي ، والمستوى التركيبي ، وكذلك ستشمل دراستنا المستقطعة جوانب من  المستوى اللساني الداخلي الذي نعني به دراسة اللغة في ضوء سياقها التلفظي ، أما  بعدها السيكولوجي فسنغوص فيه من خلال ( المدخل التقمصي الوجداني  في جزء آخر من أجزاء دراستنا الذرائعية لتجربة مليكة الجباري الشعرية  ) .
يقول عبدالرزاق عودة الغالبي : ( وحسب علم اللسانيات ، تعمل المهارات الميكانيكية الحسية في العقل الإنساني المتلقي للأدب بشكل عام ، والشعر بشكل خاص ، بأربع مهارات ميكانيكية تعمل على استلام المعلومات المتواترة المؤثرة بالإحساس حسب نوع اللغة وجنسها وكما يلي :
_ الجانب الحسي و العيني هو حسب اتجاه الدلالة المرسومة من الجهات الأربع لتقرر هوية اللغة الحاضرة ...
_ الربط بين الدالة والصورة وهذا واعي بين المنطوق والمرئي من دلالات نصية مكتوبة يتميزها العقل بشكل منطقي بميزة التمييز ..
_ تمييز حرف وآخر في الكلمة ( recognition ) وبعد ذلك ينص الدماغ على التفسير الدالالي (   interpretation ) قد تكون ( phone ) الصورة صوتا فقط فلا تعطي معنى ، إلا إذا كانت مجموعة من الأصوات رتبت بشكل منطقي وصارت ( morpheme )  أي كلمة ذات معنى حينها تسمى ( word ) في سياق سيمانتيكي أي مقبولة بسياق نحوي محبوك بدرجة براغماتية كبيرة ، أي وضع لغوي محفوف بعمق اجتماعي ذرائعي ، بدرجة حسية عالية من العمق الأدبي ..) . ونعتر لكل متتبع ومهتم بدراستي المستقطعة ..لا أدعي أني سأغوص ( المدخل اللساني )  أكاديميا ، لأن المدخل المستقطع هو فقط واحد من المداخل النقدية الذرائعية العلمية التي تكمل علمية  بعضها بعضا ..دراستها المستقطعة ستقدم إشارات لكل ناقد مهتم رغب في دراسة ديوان ( رؤى آجلة على المستوى اللساني .

============ &  المدخل اللساني / ديوان ( رؤى آجلة ) للشاعرة مليكة الجباري =========

تحليل مورفولوجي / مورفيمات صوتية داخلية

يقابل مصطلح المورفورفولوجيا علم الصرف ، والمورفولوجيا في العلم الحديث تدرس بنية الكلمات ، وتهتم بالوحدات الصرفية أي المورفيمات ، وكذا الاشتقاق بأنواعه وأزمنة الأفعال والتعريف والتنكير ، والتعدي واللزوم ، وكل ما يخدم الجمل .

تقول الشاعرة في قصيدة ( محكمة بلون عربي ) / ديوان رؤى آجلة

أرض لونت تربتها الحمرة
قطرات دم ..الحياة صرخة
حر أبي ..قرأ البسملة
لغة الضاد بينكم
فلم تشابكت المسألة ؟؟؟
على اليسار شيطان ...
سلم الأوراق ، سطرت قدسيتها المزبلة
تمهلوا ...
كفه بالدم مخضبة
القلم هارب من سماء صنعت ميزان العدل
أنتم أضفتم الكرسي ...
طاولة عليها محبرة
قراءة التاريخ أمانتكم
ولا تنسوا حق الجدولة
سجل أنت حدود صوتك
لا تقترف خطأ أبيك !!!
تعتقد ...
أن كل الثقوب مهزلة
صراع الخبز والأرض رغبة
قصة شرعية من البداية
نسيج السلطة ..قتلتم السؤال
كفكف دمع الجواب
ركب الكل جنون الدهشة
الانعتاق في حضرة الحياة
ليس بهدلة ...
تاه البحث عن واحة الأماني
الصمت وطن في النهاية
احتلوا فوهة الكلام
تراشقت أبراج الجهل
ناءت بالتمرد سطور الكتاب
فلا تصدقوا من سرق الشمس
سمى الكل شيطانا
حولوا القبلة اتجاه موطنكم
لا مجادلة ...
كيف تكون أنت ؟؟
وتنسى شكل العدالة
قرد ... ذئب
حمار ...أسد
لا أدلة ...
انتهت المحكمة
  ........

إن أكبر اتجاه يصنعه علم الصوتيات في اللغة هو خدمته الكبيرة التي يسديها للنقد الأدبي ، وهو ما يسميه النحاة العرب ( طلب الخفة ) ، تسعى اللغة من خلاله تيسير النطق على المتكلم ، وظهر ذلك في الحذف عند الشاعرة ( قرد ... ذئب / حمار ...أسد ) ، وطلب الخفة كذلك تجلى في التقاء الساكنين ( فلم تشابكت المسألة ؟؟؟)  . ومن ظواهر طلب الخفة رصد الضوابط التي تضبط توالي الأصوات في تأليف الكلمات ، يقول السيوطي في المزهر : ( واعلم أن الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت ، لأنك إذا استعملت اللسان في حروف الحلق دون حروف الفم ودون حروف الزلاقة كلفته جرسا واحدا وحركات مخففة ..) ، وهذا مبدأ يسود في اختيار الكلمة الشعرية المفردة وسلاسة الكلمات المجاورة ، وقديما أطرى الناس شعر البحتري ، فقالوا إنه خيف على اللسان عند إلقائه ، وعلى الأذن عند سماعه ، وردوا ذلك إلى حسن انتقائه للكلمات ، وحسن رصفه للتراكيب
نلاحظ الشاعرة في قصيدتها الشعرية ، استندت على وحدات مورفولوجية حرة ، ونعني بها كل ما يدخل على الاسم فيخففه ( ليس بهدلة / لا مجادلة ) ، وتنوع استعمالها ( طلب الخفة ) يحمل أوجه بلاغية مثل الالصاق والاستعانة والمصاحبة ، واستعملت كذلك حروف العطف لإحكام العلاقة بين أطراف التراكيب ( ولا تنسوا حق الجدولة / وتنسى شكل العدالة ) ، والمعنى بدون هذه الروابط عرضة للبس والبطلان ، وهو من الوحدات المورفولوجية تفيد العطف وتستدعي الانتباه ، أما صيغ اسم الفاعل في كثيرة دلت على صفات ثابتة في الموصوف بغرض سمة فنية جمالية في النسيج الشعري ، فالاسم يدل على الثبوت  والاستمرار ، أما الفعل فيدل على التجدد والاستمرار . الكلمة عند الشاعرة في قصيدتها ذات علاقة عرفية بين الكلمة ومعناها علاقة اجتماعية ، أي علاقة الكلمة بمعناها الأصلي ، وهي تسمح فقط في حال إفرادها أن يتعدد معناها ، وهو يسميه العرب ( حكاية الصوت والمعنى ) ، أي أن الكلمات الشعرية فيها حسن ائتلاف الحروف ، مع احتمال إيحائها بالمعنى مع عدم التنافر بينها وبين بيئتها من الكلام ، فالكلمة تعد مؤثرا سمعيا كالنغمة الموسيقية ( لنا عودة لدراسة الإيقاع الشعري في جزء آخر إن شاء الله ) . الاستفهام والتعجب  الأسلوبي ( فلم تشابكت المسألة ؟؟ / كيف تكون أنت ؟؟/ لا تقترف خطأ أبيك ) يؤدي مهمة توليد الدلالة التي تخدم الفاعلية والتظافر ، وهما من الأساليب البلاغية التي تضفي على دلالة التراكيب دقة المعنى وانفتاحه إلى دلالة تعتمل في نفسية المتلقي وتثير فكره . أما أسلوب الأمر( تمهلوا ... / سجل أنت حدود صوتك / حولوا القبلة اتجاه موطنكم )  فأدى وظيفتين في النص الشعري الأولى حيقيقية والثانية مجازية .

تقول الشاعرة في قصيدة أخرى ( حكاية دعابة )

الحكي مصاغ برتابة الماضي
أغنية لحنها العرب
كلماتها سلمت الأقلام لراحل مع الأقزام
السلام هادن ليلهم يوما
الضوء انحنى قليلا كاشفا سنابل الحرف
بين النجوم ...
الانتصار انتظر تأشيرة السفر
لكن الضوء في عيونهم غازل الهروب
تأسفت العيون
القصة مزدوجة
سأجلس أنا وقوتي
وصحيفة الصباح ..
عناوين ...
أجراس ودندنة ...
عقارب ساعة حقا أصبحت دفاتها مهزلة
لهفة الرقص على الصفحات
اختلطت الألوان ...
سأعيد القراءة
الضوء معي يعيد لعبته
أعيد الكتابة
يعيد القلم عناده
الأوطان قال ...
لا تريد دعابة
السؤال يتدحرج على منصة الخطابة
هل تسكنون الحبر ؟؟؟
أم سكنتم فوق الورق ؟؟
جواب الحلم ارتدى ثوب النسيان
على الأرائك اقتنصتم الزمن الجافل
أعلن الحب انتماءه لغصة في الحلق
رسمت له شرنقة حرير
لعبة التحول رفض
أسطورة الولادة من جديد كانت عشقه الدفين
لا يفهم أن الدوران حكاية الوقت
لحظات الأمل تدفعك لسماع الخيبة
تمطر وابل غصات لا تبالي بالساهر على أبواب الفرح
حرف لو أتعب العيون
صغير الحجم كان ...انتهى مداده
انتهت زغرودة الغافل في جوف مسرحية البؤساء
حكاية دعابة تنتصر
كتبتها أنامل بعض الأغبياء
التحليل نبت خارج الوطن على مساحة الغرباء

بتركيزنا الكبير على النص الشعري للشاعرة مليكة الجباري ، سنلاحظ قدرة الشاعرة على صناعة صنعة التلاعب بالشكل والمضمون والمعنى والأيقاع المنثور ، ونلاحظ كذلك حبك محكم الانفتاح والانغلاق ، أي تجعل معنى الكلمات مرتبطا بالمعنى والشكل البصري السطري ، وسيتبين كل ما ذكرناه من خلال الآتي :

_ الأصوات الشديدة أي ( مجهور + شديد ) ، الباء في الكلمات التالية ( دعابة ، رتابة ، العرب ، سنابل ، الهروب ، الصباح ، عقارب ، لعبته ، الكتابة  ، الخطابة ، ثوب ، ، الحب ، الخيبة ، وابل ، لا تبالي ، أبواب ، أتعب ، البؤساء ، نبت ، الغرباء ) فقراءة الكلمات في إطال تسلسلها وحقولها الدلالية ، سيتوضع دور حرف الباء في المعنى  ...

_ الأصوات الصفيرية أي الصاد والزاي والشين ( صفيري + منفتح + استفالي ) ، أدوات ذات طبيعة غنائية
الأصوات المهموسة ( التاء ) أي ( مهموس + رخو ) ، وهذه الحروف موجودة بكثرة في النص الشعري ، حاملة لغرض إيقاعي وغرض إغناءالمعنى لسرقة حس ووعي المتلقي ...

_أما المورفيمات في القصيدة حاضرة بقوة مورفيم التعريف ، مورفيم الرفع والنصب ، ومورفيم الضمير ( الهاء مفردا وجمعا ) . ومورفيمات معجمية كثيرة ( العدالة _ المحكمة ......) .
أما الأنماط الزمنية للأفعال في النص ، فنمط الزمن الماضي يغلب على النص الشعري و يحمل في طياته دلالية كثيرة منها : الماضي المطلق ( كان ) والماضي البعيد ( سلمت ، سكنتم ) والماضي القريب من الزمن الحاضر ( انحنى ) والماضي المتصل بالزمن الحاضر ( ارتدى ) ، أنماط الزمن الماضي عديدة في النص بحسب دلالة الصيغ والتراكيب ...

نحو الجملة هو وحدة كبرى لتخيل لغوي وهو أساسي في التحليل ، والاهتمام فيه ينصب على الأجزاء المكونة للنص من وسائل لغوية تربط بين كل هذه العناصر المكونة مثل الإحالة القبلية والإحالة البعدية ، والضمائر والعطف ، والاستبدال ، والحدف والمقارنة وغيرها .
السبك المعجمي ، ويكون بين المفردات والغرض يتحقق بوسيلتين ، الأولى التكرار اللفظي من خلال الخبر جملة اسمية ، والثاني المصاحبة المعجمية ، أي العلاقات القائمة بين الألفاظ أي علاقة الجزء بالكل والكل بالجزء . السبك اللغوي ويتحقق بالعطف والإحالة والوصف وغيرها
الانسجام هو معيار الاستمرارية المتحقق في النص الشعري ، ونقصد به استمرار الدلالة المتولدة عن العلاقات الدلالية بين أجزاء النص ، أي علاقات الوصل والفصل والإضافة والعطف ، علاقات التبعية أي الاجمال والتفصيل والسببية والشرط والعموم والخصوص .
النص كائن لغوي يحمل في طياته عناصر صوتية وصرفية وتركيبية ودلالية تنتظم جميعا في بنية محكومة بقواعد التراكيب ، والنص شديد الارتباط بمدلوله الخارجي .

======  المستوى اللساني الخارجي  / ديون ( رؤى آجلة ) للشاعرة مليكة الجباري =================

تقول الشاعرة في قصيدتها المعنونة ب ( لبسنا هذا الصوت )

أعتذر أيها المداد من خلفيات زجاجهم مارق
الابتسامات تعتذر ..
لذاك الطفل بيننا عالق
أعتذر عن سهام أخطأت وجهة السارق
سنلبس هذا الصوت ..
معه يتلذذ السؤال ويعانق ،
يعانق كومة من السكون ...
لزواياه لا ينافق
يرتطم بجدار الحلم ..
يسابق خطوط الخرافة ...
يبحث عن منافذ الأمل في حكيها
سنعتق هذا الفجر ، ذات يوم
عويل العابرين بلا حب بلا حلم
قلت ...يشبهني
نعم ...شجاعة المجانين نحتاج ..
نحتاج لهيب قبلة لا تساوم الساعة والعقارب
فصناعة الأوجاع تفضح المستور ..
وسماؤنا حالمة كلوحة الغروب يا صديقي ...
تغريداتنا لاهثة لا تمل روحها
فالشموع ورعشات القصيدة هداياها
قلت ...
مسرحياتكم أتعبتني فهي بائرة ..
إذا ...
لنسفك حياة الضمير المفتعل
لنتعلم كفاح هذه النظرة الباهتة  عل المرايا
أنا لست هذا الصوت المشحون بالقضية
صوت يحترم أوقاتي ..
يحترم فصول الفجر وظلالي ..
التعجب بعدها لن يحل في أركانك وأركاني ...

الخطاب الشعري عموما هو رسالة إنسانية تتكاثف عناصره بعضها ببعض مع عناصر التواصل داخل بنية لغوية وبنية إيقاعية ( أعتذر أيها المداد من خلفيات زجاجهم مارق / الابتسامات تعتذر / لذاك الطفل بيننا عالق )  ، تلتحم مجتمعة مكونة الوظيفة الشعرية ، وإمكانية وجود بنية سردية في نص الشاعرة والعديد من النصوص الأخرى في الديوان ( أنظر الجزء الثالث من دراستنا لتجربة مليكة الجباري الشعرية ) ، بنية سردية ثالثة يبرز فيها الفعل القصصي في الخطاب الشعري عند الشاعرة ( قلت يشبهني ...نعم ..شجاعة المجانين نحتاج / قلت .../ مسرحياتكم أتعبتني فهي بائرة ) ، فالبنية السردية تنقل القارئ من الشعر إلى النثر ثم تعود إليه ، مما يخلق متعة ذاتية تؤدي وظيفة نفسية واجتماعية ، فالسرد كائن في بناء الخطاب الشعري ، أي أن الخطاب ثلاثي الأركان ( اللغة ، الإيقاع ، السرد ) . والانتقال من البنية اللسانية الداخلية إلى لسانيات النص ، هي رؤية نقدية قادها ( فان ديك ) و ( جيليان براون ) و ( جورج يول ) و ( محمد مفتاح ) و ( محمد خطابي ...الخطاب الشعري عند الشاعرة يجمع وظائف متنوعة منها : الانفعالية الإنسانية ، والإنفاعلية الاجتماعية ، وكلاهما لهما وقع على النفس ، كما حضرت في النص الذي بين أيدينا النصية والتماسك المتضمن لمبدإ الكمية ، أي الاقتصاد المفيد في القول ، أي الإبلاغ بأقل عدد ممكن من الجمل ( صوت يحترم أوقاتي )  . نبع الخطاب الشعري عند الشاعرة من الذات المعنية ، أي مجتمع قومي ، أي الاعتماد على الذات لتقديم مضامين ورؤى جديدة لمواجهة العصر ، ومواكبة الصراعات مع طرح أسئلة جريئة مع تقديم أجوبة جزئية ( التعجب بعدها لن يحل في أركانك وأركاني )  كما أن الخطاب الشعري عندها يرتد إلى ترسانة التراث ، أي كل المتراكم من منجزات الخصوصية الثقافية المتميزة وإمكانياتها ، خاصة وأن التراث لا يمثل رصيدا جامدا ، بينما ترتكز عليه لتمثل كل ما يرتقب في المستقبل . الخطاب الشعري الحي هو القادر على  الجمع المتوازن بين الثوابت والمتغيرات ، ومن هذا الجمع تنشأ الخصوصية والتميز ، فالخطاب الشعري خاصة واللغة عامة هي مستودع ثقافة أمة ، وأداتها للتفكير ، ووسيلتها للتعبير .

ونواصل غوصنا اللساني الخارجي لنص ( لبسنا هذا الصوت )

فالبحيرة ، يا صديقي ...
لا تهدأ هدوءها لتتألق رشاقة البجع ...
إنه الماهي والرقصة والماء .
نفتقد الدفء وخدعة القمر ...
عاصفة تلك الأحزان حقا ..
عندما تصرخ الدموع في العيون .
لا تصادروا حقي في الحركات الراقصة على الشفاه ..
لبسنا هذا الصوت ...وكفى
خيوط البريق تحتاجنا ...
لفتنا في عيون القادمين من ولادة الشمس
يا صديقي ..لا تعكر صفو الصفاء من أجل ضباب قاتل
سنقبل هذا المدح المتبرج ، وسنقل حتى هذا الهجاء ..
لأننا رفضنا الأصوات الملحنة في الحقول المحروقة ..
سيرني معك نحو روح دون أصفاد ...
لنكسر هذه المظلات العفنة ..
ونحرق كل هذه الأوراق الذابلة في أرواحنا
سنشرع لغة تحاكي نضال اليامات ونشيع الهم ،
نشيع حتى ذبول النشيد على أبراجنا ...
ورقصات مجنون الكلمات .
قبل هذا قلت ...
تعلموا لباس الحقيقة أيها الأحياء ...
تخلصوا من ظلال العقول الحائرة على ضفافكم
لكن الموت يا صديقي ..لا يختار ولا يختبر الجواب
إني أعتذر لهذا الصوت الذي يلبسني ويلبسك
وأعتذر .... وأعتذر ...
كان الضجيج أقوى مني ...
كان الكلام أكبر مني
تعلمنا في غفلة منهم ،
الحاويات بألوانها لا تغير ما في القاع من قمامات ...
شرع معي لغة ، تحاكي نضال اليامات
لأننا لبسنا هذا الصوت ...وكفى
صوت قادم من كلمات كحروف الشرفات
وذاك الطفل العالق بيننا ...
وبعض من عجين الخرافات .
لعلنا نلتمس الطريق
ونسكن النور القادم من خلف الكلمات

يعرف الشريف الجرجاني الكلام بأنه : ( المعنى المركب الذي فيه الاسناد التام ) ، والنص مظهر دلالي يتم فيه إنتاج المعنى المتحولة إلى دلالة حال تشكلها في ذهن القارئ ، وتتضح تمظهرات الخطاب الشعري في أنواع كثيرة منها المظهر النحوي المركب من وحدات لغوية تتشكل في تكوين داخلي وقابلة للخروج إلى تكوين خارجي ، فيصبح الكلام أو الملفوظ الشعري عند الشاعرة يتراوح ويدور في مدارين هما الدفقة العاطفية الذاتية والأحاسيس الاجتماعية ، من منطلق أن الشعر هو القول العظيم المتقن الحسن البيان المرتب المنظم لحرفه وأدواته وكلماته وصورها  وبناء الجمل . أما خطاب المؤشرات الأسلوبية فهو مهم في إجراء تحليل لغوي لنصوص الشاعرة مليكة الجباري ، ومقدرة هذا الخطاب السلوكي ( لنا عودة للمدخل السلوكي في جزء آخر من دراستنا لتجربة مليكة الجباري الشعرية ) على ردود فعله ومدى تأثيراته على القراء ، على أساس أن القدرة توقع ما يتجاوز النص المدروس تتوقف على دفقة الأسلوب اللغوي واتساع المادة والعلاقة اللغوية النصية أي بين المشهد الأصلي والمادة المفتوحة  ، يقول المصطفى فرحات أبزو في تقديمه للديوان : ( تبدو الشاعرة مسكونة بحرقة الأسئلة ومنها سؤال الشعر ، وبقدر ما تتوارد الأسئلة في ذهنها بقدر ما تصبح الأجوبة معقدة ، وبالتالي تأتي القصيدة  أكثر ثراء وغنى ...فالشعر هو في جوهره بحث عن الحقيقة الصامتة الخفية فيما وراء حركات الموجودات وسكناتها ، والشاعرة لا تهتم بوجودها في حد ذاتها ، بل بما تنطوي عليه من جمال ، وعندما تكون الرؤية صافية شفافة فإننا نهتدي إلى مكامن الجمال حيث تربض أسرار الحياة ، وحده الشعر من يملك لكي تراه ، والأدوات الفنية التي تجليه وتكشفه ، والشاعرة أماطت اللثام عن كثير من الأسئلة وسلمت مفاتيح الأقفال للمنلقي ...) .

==============   خاتمة =================

مخاطبة الذوق الفني لشامع أو متذوق النص الشعري تتطلب منه المشاركة الوجدانية ، لذلك يجتهد كل شاعر مجندا كل قدراته اللغوية بدءا بالصوت وانهاء بالجملة واختيار للكلمات المناسبة ذات الجرس والتأثير الإيقاعي التي تناسب موقعها في من اللفظ وقسطا من المعنى .
اهتمت الشاعرة بمحجمها الشعري فجعلته أرضا خصبة تنتقي منه الألفاظ والمفردات ، فتبدع وتخلق علمها الشعري الذي هو القصيدة والتي تعد من مكونات الخطاب الشعري عندها . فالحقل الدلالي هو مادة اللغة العربية ، والألفاظ تضعها في تعدد سياقها مما يمنحها دلالات جديدة ومتجددة ، فتكشف عن بناء أسلوبي لغوي خاص مرتبط بسياقات الشعري ، وهو المسؤول عن منح الهوية للألفاظ وتوظيفها في تجربة الشاعرة الشعرية ، فالكلمة عندها لا تفسر بالعقل لوحده بل بالتقمص الوجداني للمتلقي والخيال . وهكذا تضعنا الشاعرة أمام أهداف إنسانية سامية تعبر من خلالها بالصورة البيانية والتكرار والتقديم والتأخير والتضاد والضمائر والألوان والمستندة إلى دور الكلمة الشعرية الفاعلة والمؤثرة رغبة في خلق عالم أكثر عدالة .

=====\\\\==========\\\\\===========\\\\\\\====================

الهوامش
   ديوان الشاعرة مليكة الجباري / رؤى آجلة
1 _ الذرائعية في التطبيق / عبدالرزاق عودة الغالي
2  _ مكونات الخطاب الشعري وخصائصه اللسانية / مداس أحمد
3 __ محمد مفتاح / تحليل الخطاب الشعري ( استراتجية التناص )
4 _ محمد خطابي / لسانيات الخطاب ( مدخل إلى انسجام الخطاب )
5 _ فان ديك / النص والسياق
6 _ الزمخشري  / الكشاف
7 _ جوليا كريسطيفا / علم النص / ترجمة : فريد الزاهي
8 _ سعيد يقطين / تحليل الخطاب الروائي
9 _ النظريات اللسانية الكبرى ( من النحو المقارن إلى الذرائعية ) / ماري آن بافو ، جورج إيليا السرفاتي ، / ترجمة : محمد الراضي
10 _ علم الدلالة / الدكتور أحمد مختار عمر
11 _ كمال أبو ديب / في البنية الإيقاعية للشعرالعربي
12 _ سعد مصلوح / اللسانيات العربية المعاصرة والتراث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق